لم يكن أمام الولايات المتحدة الأمريكية إلا وضع استراتيجية دفاعية لها، وأنها لم تشر فقط إلى «الأطر العامة» لاستراتيجيتها الكونية الجديدة، بل أشارت إلى إمكانية جهودها لبلورة قواعد محددة لعقيدتها العسكرية الجديدة، تنص على الحق فى توجيه الضربة الأولى إلى الدول التى تملك أسلحة دمار شامل، وقد تحدث الرئيس الأمريكى الأسبق جورج دبليو بوش عن ضرورة القيام بعمليات عسكرية «احترازية»، فى إطار «الحرب الشاملة ضد الإرهاب» وفى حديثه هذا، أعلن بوش صراحة أن الولايات المتحدة على وشك الانتقال من استراتيجية الردع والاحتواء، إلى استراتيجية «الهجوم الاستباقى»، وهو ما كشفته الباحثة مروة محمد عبدالحميد عبدالمجيد فى دراستها، التى حملت عنوان «التغير والاستمرار فى استراتيجية الأمن القومى الأمريكية بعد أحداث 11 سبتمبر».
ثالثا: توظيف المفاهيم والشعارات الإيديولوجية واعتمادها كأدوات أساسية فى خدمة الاستراتيجية الأمريكية فى الخارج، وهذا التوجه بدا واضحاً فى التقرير الذى رفعته «اللجنة الأمريكية للأمن القومى فى القرن الحادى والعشرين» إلى البيت الأبيض، فقد أشارت اللجنة إلى أن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة ينبغى أن تراعى التوازن بين هدفين أساسيين: الاستفادة من ثمار العولمة بهدف توسيع نطاق الحرية والأمن والازدهار للأمريكيين ولغيرهم، والثانى يجب أن تسعى الاستراتيجية للقضاء على القوى المسببة لفقدان الاستقرار العالمى، بحيث يمكن المحافظة على الفوائد التى يتم جنيها.
رابعا: استكمال بناء أدوات السيطرة العسكرية على مراكز الطاقة فى العالم بدءا من الشرق الأوسط وصولا إلى نفط آسيا الوسطى، وغاز بحر قزوين الواعد، وبهذا تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية التحكم فى السياسة العالمية عبر الهيمنة الاقتصادية.
خامسا: إعادة تقييم الوضع النووى، شهدت بداية عام 2002 تسريبات مقصودة، أن وزارة الدفاع الأمريكية كُلفت بوضع خطط طارئة لاستخدام الأسلحة النووية ضد سبع دول على الأقل هى «روسيا والصين والعراق وإيران وكوريا الشمالية وليبيا وسوريا»، وقد وردت هذه المعلومات فى تقرير سرى أعده البنتاجون، وقدمه للكونجرس فى 8 يناير 2002 بعنوان «إعادة تقييم الوضع النووى» يكشف أن الولايات المتحدة تعتزم استخدام أسلحة نووية لمواجهة ثلاثة أنواع من التهديدات ضد أهداف قادرة على الصمود أمام هجمات غير نووية، ردا على هجمات بالسلاح النووى أو البيولوجى أو الكيميائى، وحصول تطورات عسكرية مفاجئة.
ونجد أن هذا التقرير يبيّن مدى التحولات النوعية التى أظهرتها أحداث 11 سبتمبر فى الفكر الاستراتيجى الأمريكى، ويوضح أيضا بعدا جديدا لتأثير تلك الأحداث على حروب المستقبل.
استعداد البنتاجون لاستخدام الأسلحة النووية فى حرب محتملة بين الصين وتايوان، أو فى حال تعرضت كوريا الجنوبية إلى هجوم من كوريا الشمالية، وأشار التقرير إلى إمكانية استخدام الأسلحة النووية ضد كل من كوريا الشمالية والعراق «فى حقبة صدام حسين» وإيران وسورية وليبيا، لأنها من الممكن أن تشارك فى الأنواع الثلاثة من التهديدات المذكورة آنفا، فضلا عن أنها دول ذات عداء طويل المدى ضد الولايات المتحدة وشركائها، وكلها ترعى الإرهابيين، ولديها برامج لتطوير أسلحة الدمار الشامل وللصواريخ أما الصين، فرأى التقرير أنها دولة يمكن أن تشارك فى حالات طوارئ بطريقة مباشرة أو محتملة، بسبب ترسانتها النووية وتطويرها لأهداف استراتيجية، أما بصدد روسيا الاتحادية فرأى التقرير أنها لم تعد رسميا «عدوا»، إلا أن ترسانتها الضخمة، التى تشمل ما بين 6 آلاف إلى 10 آلاف رأس نووى «لا تزال تثير القلق»، ولقد أشار التقرير أيضا إلى إمكانية استخدام الولايات المتحدة السلاح النووى ضد التنظيمات الإرهابية وتنظيم القاعدة.
والخلاصة، أن المبدأ النووى الأمريكى الجديد لا يستبعد إمكانية لجوء الولايات المتحدة قبل غيرها إلى استخدام السلاح النووى، إذا ما نشأ خطر صنع سلاح إبادة جماعية من قبل خصومها، أى أن أمريكا أعطت نفسها تفويضا لاستخدام السلاح، بما فيه ترسانتها النووية الضاربة ضد البلدان الأخرى، ويمكن الاستنتاج بأن المبدأ النووى الأمريكى يعقد الوضع الدولى تعقيدا شديدا، خصوصا أن اعتماده تم فى أعقاب إعلان الولايات المتحدة انسحابها من معاهدة الدفاع المضاد للصواريخ، وهذا الأمر من المحتمل أن ينجم عنه خطر ضرب كل نظم السيطرة على التسلح والأمن الدولى، الذى تكون فى سنى «الحرب الباردة» الذى لم يقابله نشوء نظام جديد يأخذ فى الحسبان واقع العلاقات الدولية الحالى، حيث لم يعد هناك لاعبان اثنان فقط، بل بات اللاعبون كثراً، ويبدو أن انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الدفاع المضاد للصواريخ، كان مخططا له للتحلل من أية التزامات تفرضها هذه المعاهدة، الأمر الذى فتح الأفق لإقدام الولايات المتحدة للإعلان عن تقرير «إعادة تقييم الوضع النووى» .[38]
سادسا: التخلى عن «استراتيجية الردع والاحتواء» التى حكمت السياسة الأمريكية إبان «الحرب الباردة»، وتبنى استراتيجية «الهجوم الوقائى»، وهذا ما سوف يتم التحدث عنه فى المقال القادم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة