كلما وضع الدكتور نبيل حنفى محمود مؤلفا جديدا فى مجال الفن العربى وتاريخه عموما ومجال الغناء خصوصا، وثقت فى أن القارئ سيتزود بمعرفة قيمة وجديدة، وأن المكتبة العربية ستضم بين رفوفها مرجعا مهما فى مجاله، ومجموع مؤلفات ناقدنا ومؤرخنا الكبير شاهد على ذلك، وأبرزها كتب «معارك فنية» و«الغناء المصرى.. أصوات وقضايا» و«العصر الذهبى للغناء المصرى.. مواقف وحكايات» و«فريد الأطرش ومجد الفيلم الغنائى»، وأخيرا كتابه «أئمة وشعراء غنائيون» الصادر قبل أيام ضمن سلسلة «كتاب الهلال».
يخوض الدكتور نبيل حنفى محمود، الأستاذ بكلية الهندسة جامعة المنوفية، فى هذا المجال بقلب وعقل الباحث المدقق، العاشق للفن وقضاياه، وفى كتابه الجديد «أئمة وشعراء غنائيون» يقتحم منطقة جديدة وهى التأريخ لطائفة من شعراء مدرسة الشيوخ، والمعنى بهذه الطائفة الشعراء من الأئمة والشيوخ، ممن تلقوا تعليما دينيا، وعمل البعض منهم فى وظائف دينية، وذاعت شهرتهم كشعراء طوال تاريخ الغناء العربى، والذين تحول البعض من قصائدهم إلى أعمال غنائية وعلى الأخص فى مصر، وعاصرت تلك المجموعة من الأئمة تاريخ مصر فى فترة امتدت من القرن الثانى الهجرى وحتى مطلع القرن الثالث عشر الهجرى، وهى فترة حفلت بالتقلبات السياسية والاجتماعية، والتى انعكست فى أحوال كثيرة على فن الغناء والعاملين به بالسلب».
يبدأ مؤلفنا كتابه بمقدمة مهمة، يؤكد فيها على أن الغناء المصرى دخل أسوأ عصور انحطاطه مع الاحتلال العثمانى لمصر فى سنة 1517، حيث جرى اعتباره «أمرا هزيلا، لا يليق بأن يشغل فراغ أى مسلم صالح»، وعد من يمارسونه «محقرين مهانين من جانب الرأى العام»، ومما يؤكد الدرك الذى وصل إليه الغناء المصرى بعد الاحتلال العثمانى، وينقل «محمود» عن الباحث ناصر عبدالله عثمان فى كتاب «الحركة العلمية فى مصر فى القرن السابع عشر عن علم الموسيقى»، الذى قال عنه: «يعتبر هذا العلم ضمن العلوم التى لم تلق اهتماما كبيرا من قبل العلماء طيلة فترة العصر العثمانى، ويرجع ذلك إلى سبب جوهرى، وهو أن مسألة السماع كانت مثار جدل وخلاف بين علماء العصر العثمانى، ووضعت المصنفات فيها بين محلل لها ومحرم»، ويضرب الباحث مثلا للمصنفات المحرمة للغناء والموسيقى بكتاب «كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع» تأليف «شهاب الدين بن أحمد بن حجر المكى الهيثمى الشافعى عام 1565».
هذا الانحطاط الذى أصاب الغناء فى مصر بسبب العثمانيين كيف تم الخروج منه؟ يؤكد محمود، أن هذا الخروج تحقق على أيدى مجموعة من شيوخ الأزهر، وضمت فريقين، فريق اهتم بنظم القصائد والأزجال، والثانى انكب على تلحين ما نظمه الفريق الأول من نصوص وإنشادها، ومن الفريق الأول هناك أسماء مثل الشيوخ، على أبو النصر، على الليثى، أحمد الزرقانى، أحمد وهبة، محمد الدرويش، عبدالله الشبراوى، وأحمد العروسى، وعرفوا جميعا بين كبار الشعراء الغنائيين فيما عاشوه من عصر، ومن الفريق الثانى تبرز أسماء الشيوخ، محمد عبدالرحيم المسلوب، محمد أبو العلا، على القصبجى، على محمود، سيد الصفتى، خليل محرم، محمد الشنتورى، ويذكر «محمود» أن الفريقان استفادا كثيرا من كتاب «سفينة الملك ونفيسة الملك» الذى صدر قرابة منتصف القرن التاسع عشر، وحفظ فيه مؤلفه محمد بن إسماعيل بن عمر شهاب الدين بضع مئات من التواشيح، التى ذاعت قبل الاحتلال العثمانى لمصر، ومثل خلاصة ما أبدعته قرائح الملحنين من الغناء المتقن، والتى كادت تضيع فى ثنايا ما شاع فى الغناء من صيغ عثمانية وغجرية، أراد الغزاة إبدال القصائد والتواشيح بها، فلم يتحقق لهم ذلك، حيث حفظت مجموعة من الشيوخ، جوهر الغناء المصرى المتقن من عاديات العجمة.
وغدا نواصل.