قال الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، إن أغلب المنظمات الأممية وجمعيات حقوق الإنسان فى واد والدماء والجثث والأشلاء وصراخ الأطفال ودموع اليتامى وأنين الثكالى فى واد آخر.
وأضاف فى كلمته مؤتمر حول السلام العالمى بعنوان: «طـرق السلام» المنعقد بمدينة «مونستر» بألمانيا،أن الحرب فى هذا العصر تغير مفهومها بسبب مصانع الموت التى تحصد الآمنين وتضطر الكثيرين إلى الفرار من جحيم الأسلحة الفتاكة، مضيفا أن التفرقة فى الحقوق على أساس من الفقر والغنى أو العرق أو اللون أو الدين عمل لاإنسانى بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى
وتابع: الشرق الآن يعج بالأسى والألم ويدفع ثمنا فادحا من الدماء والجثث والمقابر الجماعية نتيجة سياسات إقليمية وعالمية دمرت بها شعوبا وحضارات عريقة، مشيرا الى ان ما يحدث اليوم لمسلمى الروهينجا من إبادة جماعية وتهجير قسرى هو أحدث فصول المسـرحيات العبثية فى الشـرق،لافتا الى ان المجتمع الدولى عجز عن إنقاذ مسلمى الروهينجا من تلك المآسى التى يئن لها ضمير الإنسانية
وأكد أن ما يحدث فى الشرق سببه هو الإصرار على إبقاء المنطقة فى حالة صراع دائم،مشيرا الى ان الإرهاب ولد بأنياب ومخالب جاهزة مخالفا بقدراته الخارقة كل قوانين التطور الطبيعى،لافتا الى ان الشرق سبق أن قدم للغرب أيادى بيضاء وحمل الكثير لحضارته وأشعل فى ربوعه جذوات العلم والثقافة والأدب والفنونع
وتابع :عالمنا المعاصر فى حاجة إلى أخلاق إنسانية عامة عابرة للقارات تسوده وتحكم مسيرته وتكون بديلا للأخلاق المتناقضة المتضاربة،مضيفا ان تعاون الأزهر الشريف مع المؤسسات الدينية الكبرى فى أوروبا هو من أجل تحقيق خطوة على طريق السلام الذى تدعو إليه جميع الأديان،و نمد أيدينا لكل محب للسلام كائنا ما كان دينه وكائنا ما كان عرقه
وإلى نص الكلمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الدكتورة/ أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية
القائمون على ترتيب هذا المؤتمر الهام من مجلس حكماء المسلمين!
الحفــل الكـــريم!
أحييكم بتحية الإسلام، وبتحية الأديان السماوية كلها وهي: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وأشكركم جميعا على حضوركم هذا المؤتمر الذى يضم نخبة متميزة من رجال الأديان وقادة السياسة والفكر، والاقتصاد والإعلام، وبخاصة هذا الشباب الذى أراه أمامى اليوم بوجوه مشرقة واعدة فى عزم وتصميم بصنع مستقبل إنسانى يظلله الأمن والسلام والعيش المشترك والتعارف المـتبادل القائم على مبادئ العدل والحرية والمساواة بين الناس، هذا وأرجو أن تجيء كلمتى أمامكم رغم المدة القصيرة المحددة لإلقائها- معبرة عن شيء من مشكلات عالمنا المعاصر وما يعانيه الناس، وبخاصة فى شرقنا العربى والإسلامى من أهوال وعبث بالأرواح والدماء، وإهدار الحقوق الآدمية بصورة بشعة، تذكرنا بحروب الماضى التى كنا نظن أنها أصبحت فى ذمة التاريخ.
واليوم.. وفى عصر التقدم العلمى والتقنى والفنى، وفى عصر الرقى والمنظمات الأممية، والجمعيات العالمية لحقوق الإنسان، ومنظمات المجتمعات المدنية والمواثيق الدولية، التى أخذت على عاتقها حماية البؤساء والأطفال والعجزة والأرامل، وتعهدت بتوفير مقومات الأمن والأمان للناس؛ ثم تبين أن أغلب هذه المؤسسات فى واد، والدماء والجثث والأشلاء وصراخ الأطفال ودموع اليـتامى وأنين الثكالى فى واد آخر- فى هذا العصر الجديد، تغير مفهوم الحرب بسبب مصانع الموت المتطورة تقنيا وعلميا: فأصبحت رحى الحرب تحصد الآمنين فى بيوتهم وشوارعهم وقراهم ومدنهم، ومدارسهم وأنديتهم، وتضطر الكثيرين إلى الفرار من جحيم الأسلحة الفتاكة، تاركين أوطانهم إلى مجهول لا يعرفون عنه شيئا، أو يضطرهم الرعب والخوف إلى ركوب البحر لينتهى بهم الأمر فى أعماقه غرقا وهلاكا.
هذه الشريحة البائسة المعذبة، هى شريحة إنسانية لها ما لأى آدمى فى الشرق والغرب من حق الحياة وحق الحرية وحق الاستقرار على أرضه والتمسك بوطنه.
والتفرقة فى هذه الحقوق على أساس من الفقر والغنى أو العرق أو اللون أو الدين هو –فى مفهوم الإسلام، بل فى مفهوم الأديان الإلهية جمعاء، عمل لا-إنسانى بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. والذين تربوا منا على مائدة الأنبياء والرسل وأخلاقهم يعلمون حق العلم أن الإنسان أخو الإنسان، وأن كل بنى آدم نظراء فى الإنسانية، وأنها وشيجة من وشائج القربى تترتب عليها حقوق وواجبات متبادلة بين الناس.أفرادا كانوا أوجماعات أوشعوبا.
أيتها السيدات والسـادة!
لا تستغربوا هذه اللغة المتشائمة التى افتتحت بها كلمتى فى مؤتمر كهذا، كل ما فيه يدعو إلى التفاؤل والأمل، فأنا قادم من الشرق الذى يعج بالأسى والألم، ويدفع –الآن- رجاله ونساؤه وعجائزه وأطفاله ثمنا فادحا من الدماء والجثث والمقابر الجماعية، لسياسات إقليمية وعالمية دمرت بها شعوبا وحضارات عريقة: ومنها دول دمرت فى ساعات محدودة، ثم تركت ركاما هامدا حتى هذه اللحظة التى أحدث فيها حضراتكم، ومنها دول لا تزال ماكينة القتل والتدمير تعمل فى البشر والحجر، بل منها ما تعمل فيه هذه الآلة الجهنمية قريبا من خمسة عشر عاما، ومنها ما انضافت إلى قائمة القتل والدمار فيها قائمة الأوبئة والأمراض الفتاكة.
وأحدث فصول هذه المسـرحيات العبثية فى الشـرق؛ ما يحدث اليوم لمواطنى الروهينجا من المسلمين من إبادة جماعية وتهجير قسرى، وعجز المجتمع الدولى عن إنقاذهم مما يعلمه الجميع ومما تنقله لنا شاشات التلفاز ومواقع التواصل الاجتماعى من مآس يئن لها ضمير الإنسانية إن كان قد بقى للإنسانية ضمير فى الشرق أو الغرب.
هذه المآسى –أيتها السيدات والسادة-تعرفونها جيدا، ونحن نعرفها معكم حق المعرفة، وربما ترددت على مسامعنا وألفناها ولم تعد تستحق من اهتماماتنا شيئا يذكر من كثرة ما سمعنا عنها ورأينا منها، ومن هذا المنطلق لا أكرر القول فى هذا الشأن، وقد قلت فى بيان صدر عن الأزهر أمس الأول عن قضية المواطنين المسلمين فى الروهينجا أن بيانات الإدانة والشجب والاستنكار لم تعد ذات معنى، وهى تضييع للوقت وإهدار للطاقة.
لكن لا أستطيع أن أفارق هذا المؤتمر الغنى بهذه القيادات الكبيرة الموقرة، وبقيادات المستقبل من هذا الشباب المفعم بالأمل والعزيمة والإصرار والذى نعقد عليه –بعد الله تعالى- آمالا عريضة فى إنقاذ الإنسانية مما ألم بها من رعب وإحباط -لا أستطيع أن أترك مكانى هذا دون أن ألخص ما يدور فى ذهنى من خواطر عن هذه الأزمة، وأعترف أن منها رؤى وأحلام يقظة من قسوة الواقع الذى نعيش فيه، وعذرى أن الأحلام هى كل ما يتبقى للعاجز من حيلة.
فأولا: معظم ما حل بنا فى الشرق من دمار منظم سببه –فيما يقول لنا منظرو السياسات الدولية والإقليمية – هو الإرهاب الإسلامى، ومن ثم وجب التدخل لوقف خطره وإنقاذ الشعوب منه، واسمحوا لى حضراتكم إن شئنا أن نتحدث فى شيء من الصراحة ووضع النقاط على الحروف أن أقول: إن ما يحدث فى الشرق سببه هو الإصرار على إبقاء المنطقة فى حالة صراع دائم، والبحث عن مناطق يسهل فيها إذكاء صراعات دينية أو مذهبية تؤدى إلى صدام دموى مسلح، والصمت المطبق على مصادر تمول هذا الإرهاب وتدعمه وتشجعه ليل نهار.
أما قصة الإرهاب فإنها تبقى -حتى هذه اللحظة- قصة محيرة فى وعى الأغلبية الكاسحة من العرب والمسلمين، فلا يزال الإرهاب يشبه أن يكون لقيطا مجهول النسب لا نعرف من أبوه ولا من هى أمه.. ولا أريد أن أسترسل فى سرد باقى الأسئلة المحيرة عن هذا الكائن العجيب الذى ولد بأنياب ومخالب جاهزة، مخالفا بقدراته الخارقة كل قوانين التطور الطبيعى، فهو لم يكد يبلغ مرحلة الفطام حتى أعلن دولته المزعومة المنسوبة للإسلام والتى يتصدر اسمها نشرات الأنباء العالمية حتى الآن.
وأنا لا أعفى شرقنا العربى والإسلامى من أن يتحمل نصيبه الأوفى من المسؤولية التاريخية عن هذا الإرهاب، والإنصاف يقتضى أن نسجل كثيرا من الأسباب السياسية والدينية والتعليمية والاجتماعية، التى ساعدت بشكل أو بآخر فى تهيئة المسرح لهذا اللامعقول، لكنى لا أستطيع أن أفهم أن إمكانات المنطقة العلمية والتقنية والتسليحية وحدها كافية لتفسير القفزات والطفرات فى قدرات هذا التنظيم وتوسعاته، كما لا أفهم سياسة الكر والفر فى التصدى وإنقاذ الناس من شروره وأخطاره.
ثانية هذه الخواطر: أن هذا الشرق الذى يئن أهله تحت وطأة أزمات بالغة التقعيد، سبق أن قدم للغرب أيادى بيضاء، وحمل الكثير لحضارته، وأشعل فى ربوعه جذوات العلم والثقافة والأدب والفنون، وتكفينى الإشارة السريعة لما يقوله أحد علماء الغرب المعاصرين من «أن الثقافة الأوروبية تدين بدين ضخم وهائل لعالم الإسلام، وأن المسلمين حافظوا على علوم اليونان القديمة وحسنوها وأضافوا إليها، وأنهم وضعوا أسس العلوم والطب والفلك والملاحة الحديثة، وأنهم كانوا الملهمين لكثير من إنجازات الغرب الحديثة».
ويقرر هذا الكاتب المنصف أنه لولا التسامح المتأصل فى الإسلام مع غير المسلمين داخل العالم الإسلامى طوال خمسة عشر قرنا لكان من المشكوك فيه بقاء اليهود ككيان عرقى ودينى مستقل، ولكان الغرب قد حرم من إسهاماتهم الرائعة فى الفن والطب والعلم والأدب والموسيقى، والتى لا حدود لها على وجه التقريب، ومن هنا فإن الصورة السائدة فى الذهنية الغربية عن العالم الإسلامى بحسبانه عالما راكدا «يسكنه شعب ذو عادات غريبة واعتقادات مبهمة تقريبا، وأن نظرة الغرب المتحضر إلى الدول العربية على أنها مجموعة من محطات الوقود العملاقة، ومجرد مصدر مزود للمواد الخام التى يعمل بها الاقتصاد الغربي»، هذه الصورة رغم أنها لا تعكس واقع العالم الإسلامى فإنها لا يمكن أن تشكل أساسا لأى تفاهم حقيقى بين شعوب ذات ثقافات ومعتقدات مختلفة.
ويمضى الأستاذ فى استنتاجاته المنطقية الموثقة بالاطلاع الواسع، فيقول: «إن الأمم الأوروبية كلها مرت بمراحل من الاستبداد والديكتاتورية والصراع المدمر، وأن تحركها نحو الديموقراطية إنما جاء فى القرن الأخير تقريبا، فإن المشكلات السياسية الداخلية للدول الإسلامية يجب أن يترك حلها لشعوب هذه الدول، وقد أثبت التاريخ أن العالم الإسلامى يمتلك مبادئ روحية وأخلاقية كفيلة بتشجيعه على سياسة التسامح والأخوة المشتركة بين جميع الأعراق والمذاهب.. ومن حقه أن يتطور بما يتفق وحاجات شعوبه وتطلعاتها، مثلما فعلت الأمم الأوروبية من قبله. وقد شاركت أوروبا وأميركا وروسيا فى التوقيع على ميثاق تأسيس منظمة الأمم المتحدة الذى تنص بنوده الأولى على أنه ليس من حق أى دولة أن تتدخل فى الشؤون السياسية الداخلية لدولة أخرى» .
وأعتذر لكم مرة أخرى عن طول هذا الاقتباس، ولكن أردت أن أطل على عالمنا الإسلامى من منظور غربى منصف؛ لأرى حجم التناقض والمسافة البعيدة جدا بين القول والعمل.. وكيف أن شرقنا العربى الذى كنت أتغنى وأنا طالب بالمرحلة الثانوية بتحرره من الاستعمار، وببناء السد العالى فى أسوان، وبالأنظمة السياسية والاقتصادية الجديدة، وبحركات التحرر التى كانت تتنقل بين أقطاره بصورة متلاحقة، كيف عاد هذا الشرق مسـرحا لصـراع الأسلحة والسياسات والمطامع الإقليمية والدولية، وأن الشعوب الفقيرة البائسة التى أنتمى إليها مولدا ونشأة وتعليما هى التى دفعت، ولازالت تدفع ثمن هذا العبث الإقليمى والدولى، وأنها تنفذ حروبا بالوكالة لا ناقة لها فيها ولا جمل، كما يقول المثل العربى.
ثالثا وأخيرا: أرى – من وجهة نظر أعياها طول البحث والتأمل- أن مكمن الداء هو ضعف العنصـر الأخلاقى فى توجيه حضارتنا اليوم ولـجمها حين تستبد بها الشهوات والأغراض، وليس الحل فى مزيد من التطور العلمى والتقدم التقنى، رغم أهميتها وضرورتهما لحياة أفضل وأكثر رقيا، وليس الحل فى الفلسفات المادية وما إليها من توجهات علمانية، التى تنكرت لله وللأديان وللأخلاق، وليس الحل فى المذاهب النفعية ولا المذاهب الإنسانية، فكلها فلسفات تدور حول الفرد بحسبانه شخصا، وليس باعتباره عضوا فى جماعة إنسانية يرتبط بها، ولها حقوق تجب مراعاتها وإلا فسدت الجمعية الإنسانية وأصبح بأسها بينها شديدا.
والحل –فيما أرى هو فى أخلاق إنسانية عامة عابرة للقارات، مجمع عليها شرقا وغربا، تسود عالمنا المعاصر وتحكم مسيرته، وتكون بديلا للأخلاق المتناقضة المتضاربة التى دفعت عالمنا المعاصر إلى ما يشبه حالة الانتحار الحضارى، وليس من سبيل إلى برنامج أخلاقى عالمى –فيما يقول كينج- إلا مائدة الأديان والأديان وحدها ولكن ذلك مشروط بإقامة سلام بين الأديان نفسها أولا.
ومن أجل تحقيق خطوة على طريق السلام الذى تدعو إليه جميع الأديان سعى الأزهر ليتعاون مع المؤسسات الدينية الكبرى فى أوروبا، وبخاصة جمعية «سانت إيجيديو» والتى أحضر مؤتمرها للسلام للمرة الرابعة، ليؤكد الأزهر الشريف مع هذه المؤسسات استعداده لصنع سلام مع كافة الأديان والمذاهب.
نعم! ومن أجل ذلكم جئت أمد يدى – بصفتى مسلما – لكل محب للسلام كائنا ما كان دينه، وكائنا ما كان عرقه، وشـكــرا لحسن استماعكم.