فى زيارتى الأخيرة للمنيا الأسبوع الماضى التقيت بنيافة الأنبا مكاريوس، راهب من عمق برية شهيت قادم إلينا من القرن الرابع إلى القرن الحادى والعشرين، يحمل كل روح الأصالة وكل عمق المعاصرة، فك شفرة المنيا أمنيا وتنمويا وروحيا بشكل غير مسبوق، راهب إلا أنك تشعر أنه رجل دولة أكثر من أغلب من جلسوا على كراسى الوزارة من «المستوزرين» الأقباط، يمتلك عقل عالم وقلب فلاح مصرى يعلم الفرق بين طوبة وبرمهات.. ويتحسب رياح أمشير.. يعلم من أين تأتى الرياح ويميز بين ما هو أرضى وبين ما هو سماوى، يتحدث فتفيض كلماته نحو النهر لتدفع سفن الكرازة للإبحار من مدينة المعترفين الجدد بالمنيا إلى رحيق الاستشهاد، فى سلام أعلى من كل فهم.
على الضفة الأخرى من النهر التقيت باللواء عصام البديوى، محافظ المنيا، رجل أمن من طراز نادر يذكرنى بالراحل الكريم شعراوى جمعة، سياسى، هادئ، متزن، يستوعبك بكل مهارات المدرسة المؤسسة لأمن الدولة، وللعلم الجنرال صديق الأسقف، وكلاهما رغم الخلاف فى بعض وجهات النظر فإنهما يمدحان بعضهما البعض، الأسقف يرى فى الجنرال النبل، والجنرال يوصف الأسقف بالحكيم، وما عليك إلا أن تنقب خلف النوايا لتعرف أن بريق عينى الأسقف والجنرال تشعان بوطنية تتوارى فى زمن اجتياح «هبوب الصحراء» للأجيال الجديدة من بعض رجال الأمن أو الإدارة المحلية.
الأسقف يرى أن الخلاف مع الأجهزة التنفيذية ليس على بناء كنائس- كما يظن البعض- بل على قيم المواطنة والمساواة وحق المواطنين المصريين فى وطنهم، والجنرال يوافق الأسقف على العمل من أجل إقرار المواطنة والمواءمة بين النظام الاجتماعى والقانون العام، وما بين الأسقف والجنرال المنيا فى ثنايا العقل والقلب والحشا.. تكمن المنيا التى يراها الجنرال بالعقل ويطل عليها الأسقف بالقلب.
المنيا مرآة عاكسة للوضع فى الصعيد، بها أكفأ منظمات مجتمع مدنى، وليس بها تنمية ناجزة، وأغنى ثروات معدنية وليس بها صناعة حقيقية، وبها آثار متفردة من كل العصور وليست مدرجة على الخريطة السياحية منذ تسعينيات القرن الماضى، بها جامعة ومنظمات دولية ولكنها تعد «مشتلا للإرهاب»!
%82 من السكان ريفيون، ورغم ذلك فالمساحة الزراعية تشكل %6.5 من المساحة الزراعية فى مصر، ولذلك فهى طاردة للعمالة الزراعية، ويعد %25 من العمالة فى ليبيا من المنياوية رغم القهر والموت والإرهاب.. وفى نفس الوقت لا توجد صناعة، بل أنشطة للمحاجر وبعض الصناعات الصغيرة، فى حين بيعت فى الخصخصة ثمانية مصانع منها شركة النيل لحليج الأقطان وغيرها من المصانع التى كانت تستوعب قرابة 200 ألف عامل وعاملة، ووفق تقرير التنمية البشرية فإن 600 ألف يعيشون تحت خط الفقر.
وإذا انتقلنا للمواطنين المصريين الأقباط فهم حوالى 2 مليون مواطن من 5،5 مليون نسمة، يشكلون %32 من الثروة المنياوية، و%40 من الطبقة الوسطى، لديهم 632 كنيسة، وبالمحافظة 150 مكانا «توابع صغيرة تضم من 500 إلى 1500 قبطى» ليس بها كنائس، ويصلى فيها سكانها فى بيوت لتعذر الحصول على تراخيص، وقبل القانون الأخير كان من يعتدى عليهم يعد خارجا عن القانون، أما الآن فإنهم يعدون يصلون بدون ترخيص؟!!
كما أن %32 من القرى فى الثلاثين عاما الأخيرة أصابها ما يسميه المفكر سمير مرقص «فيروس التفكك القاعدى»، وأصبح بناء كنيسة فى تلك القرى ضربا من الاستحالة، ولم يعد التحدى مع تنظيمات بل قطاع لا يستهان به من السكان، ومن ثم مسألة تطبيق القانون تحتاج تهيئة ثقافية بعيدا عن الحلول العرفية، لذلك كله يعد منهج الأسقف نقلة نوعية فى منهجية التعامل مع الملف من منظور أن الأقباط ليسوا «طائفة» ولا رعايا الكنيسة بل مواطنين مصريين، وللأسف القيادة الكنسية أثناء إقرار القانون تغافلت- رغم تحذيرها- عن هذا اللغم، الأنبا مكاريوس أيضا منذ أحداث الكرم أسقط نظرية «إنابة» القيادة الكنسية عن الأقباط، ورسخ دور الشعب كمواطنين ومن ثم أحدث تغييرا نوعيا فى معادلة «الدولة- البطريرك»، ولذلك تفهم ذلك قداسة البابا وفوض الأنبا مكاريوس فى أمور المنيا فى سابقة هى الأولى وتحسب للبابا تواضروس البطريرك المصلح، لكن المنيا لازالت تشهد 15 كنيسة مغلقة، و80 تابعا بمسميات مختلفة يبحثون عن حل لمشكلة الصلاة، مقترحات مختلفة ولكن لا مفر من بيوت ترخص للصلاة، لتأخر الترخيص ببناء الكنائس إضافة إلى الفكر المتزمت والمعادى لبناء كنيسة فى بعض القرى.
أما الحديث حول التراخيص للصلاة فهو يضر بسمعة مصر خاصة وأن الولايات المتحدة ودوائر غربية تتربص ومن ثم يصبح حق المواطنين الأقباط فى الصلاة قضية وطنية بامتياز، الجنرال المحافظ يتفهم كل تلك التطورات ويسعى ما بين الأمن ومقتضيات رؤيته والأسقف وسعيه لمواطنية الأقباط الكاملة، هكذا لابد أن نمر من الانتصار فى معركة حرية العبادة فى المنيا إلى مصر الحديثة، وفى كل الأحوال الخير العام يأتى من المنيا وأن الصراع بين الفكر القديم والجديد سوف يطل من المنيا من خلال نضال كل المصريين مسلمين ومسيحيين على أرضية المواطنة وجدلية الأسقف والجنرال.