من المسلَّمات المجمع عليها من الفقهاء قديمًا وحديثًا أن محل الاجتهاد فى النصوص الشرعية ينحصر فى النصوص ظنية الدلالة فحسب، وذلك لأن هذه النصوص تقبل التأويل وتنوع الفهم، ومن ثم تكون أحكامها اجتهادية نتيجة لاختلاف العلماء فى تفسيرها واستنباط الأحكام من مدلولها، وقد أورد الشرع الحكيم هذه النصوص هكذا لتحتمل إعادة النظر والاجتهاد ممن لديه أدوات الاجتهاد ومؤهلاته من أهل العلم فى العصور المختلفة لتكون مناسبة للزمان ومراعية لأحوال الناس فى الأماكن المختلفة، وذلك كله لنفى الحرج عن الناس ومواكبة المستجدات الحادثة فى حياتهم.
والنصوص ظنية الدلالة يندرج تحتها ما لا يحصى من أحكام المسائل التى تعرض للناس فى حياتهم اليومية، ومعلوم أن ما يعرض للناس فى حياتهم لا يناسبه الثبات فى الأحكام وإلا لوقعت مشقة على الناس وحرج فى مواكبة مستجدات حياتهم ومتطلبات عصورهم المختلفة، نظرًا لتغير الثقافات والإمكانات والقدرات من عصر إلى عصر ومن مكان إلى مكان فى العصر الواحد.
ومع هذه المرونة التى تحملها الأحكام الشرعية المستنبطة من القسم الغالب من النصوص الواردة فى الكتاب والسنة، فضلًا عما لا يحصى من الأحكام الاجتهادية التى استنبطها الفقهاء بالقياس على هذه النصوص أو من خلال تطبيق المبادى العامة فى الشريعة الإسلامية، فإن أهل العلم قديمًا وحديثًا أجمعوا على ثبات مجموعة أخرى من الأحكام، وهى قليلة جدًّا بالمقارنة بالأحكام المتجددة المتغيرة بتغير أحوال الناس وزمانهم ومكان وجودهم، وهذه الأحكام القليلة مبنية على نصوص قطعية الدلالة، وهى تتعلق بمسائل الأصول فى العقائد والعبادات والمعاملات وبعض الجنايات، ولم يثبت لدى المنصفين المتجردين بعد مرور ما يقارب خمسة عشر قرنًا من الزمان وجود إشكال فى هذه النصوص أو وقوع عنت على المكلفين جراء ثبات الأحكام المبنية على هذه النصوص، بل أثبت واقع الناس الذين لا يلتزمون بأحكام شريعة الإسلام الاضطراب والارتباك، فتارة تجدهم يقتربون من أحكام شريعة الإسلام، وتارة يبتعدون عنها فى الموضوع الواحد، ومن ذلك أن كثيرًا من الدول أقرت مدة من الزمان عقوبة الإعدام التى يقابلها فى شريعتنا الإسلامية القصاص فى القتلى، ثم قامت هذه الدول بإلغائها واستبدلت بها عقوبات أخرى رأتها أكثر رحمة من وجهة نظرها، لكنها سرعان ما عادت لتطبيق عقوبة الإعدام لمواجهة تفشى عمليات القتل وغيرها من الجرائم التى تستوجب تطبيق هذه العقوبة، وما ذلك إلا لقصور العقوبات الأخرى التى استبدلتها هذه الدول بعقوبة الإعدام. وهذا مجرد مثال من أمثلة كثيرة جعلت مجتمعات كثيرة ومنها مجتمعات غير مسلمة بعد تجارب مريرة تقترب بعقوباتها من العقوبات الثابتة فى شريعة الإسلام، ولا عجب ولا غرابة فى ذلك؛ فمن شرع هذه الأحكام علم أزلًا مناسبتها لكل زمان ومكان، فهو العليم بخلقه الخبير بما يصلح شئونهم.
وإشكالية فتح باب النظر والاجتهاد فى الأحكام القطعية لا تقتصر على خرق قواعد الاجتهاد المتفق عليها والمستدل عليها من نصوص الشرع نفسه فقط، ولكن ما يترتب على ذلك أيضًا من هدم كامل لشريعة الإسلام، فلو سلمنا جدلًا بقبول الطرح الذى ينادى أصحابه بالمساواة بين المرأة والرجل فى الميراث مثلًا على ما فيه من ظلم بيِّن للمرأة من حيث أرادوا إنصافها على ما سبق بيانه فى مقالات سابقة، أو إباحة زواج المرأة المسلمة من غير مسلم على ما فيه من ضرر ليس محتملًا بل أكيد بمستقبل الزوجية المبنية شرعًا على السكن والمودة والرحمة؛ إذا سلمنا جدلًا بذلك فسيبقى السؤال الأهم وهو: هل سيتوقف الأمر عند هذا الحد من تخريب حكمين ثابتين يقينًا بنصوص قطعية الدلالة ولا يقبلان التغيير ولا التبديل، أو أن هذا الأمر سيكون البداية لإقرار مبادى جديدة تحل محل ما أجمع عليه أهل العلم؟! أن كانت الأولى فسيرجع هؤلاء عما ينادون به فى المسألتين بعد فترة من التطبيق أن وقع التطبيق لا قدر الله فى أى من الدول الإسلامية، لما سيقع من ضرر أكيد على المرأة والرجل على السواء، وعندئذ ستكون المرأة هى المطالبة برفع الظلم الذى جلبه أصحاب هذا التوجه الجديد حين تكتشف أنهم ظلموها فى كثير من الحالات التى كان يزيد نصيبها فيها على الرجل فى الميراث، وأنهم جعلوها فى زوجية رجل يحرمها من تأدية شعائر دينها ولا يتورع عن التعرض لرسولها ومقدساتها بما تكره، وإن كانت الثانية فتلك طامة كبرى، فبالنصوص القطعية ثبتت وحدانية الله وصِدق الرسل وأن خاتمهم رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وكون أركان الإسلام خمسة: الشهادة والصلاة والصيام والزكاة والحج، وأن الصلوات خمس فى اليوم والليلة، وأن الصيام المفروض رمضان كله لا غير، وأن القتل والسرقة والزنى وشرب الخمر وقذف المحصنين والمحصنات من الكبائر... إلخ. فهل سيخضعون هذه الأحكام القطعية وغيرها للاجتهاد المختل الذى يطالبون به مما سيؤدى إلى أحكام مغايرة للكثير منها لا محالة، أو أنهم سيطبقون نظرتهم الجديدة لأحكام الشريعة على بعض النصوص القطعية دون بعضها؟! وإذا كانوا سيستثنون بعض النصوص قطعية الدلالة من إعادة النظر والاجتهاد، فعلى أى أساس علمى أو منطقى يطبق منهج على بعض النصوص دون بعضها الآخر؟! أعتقد أنه ينبغى على دعاة هذا المسلك العودة إلى رشدهم قبل أن يبتعدوا كثيرًا فى الإضرار بشريعة الإسلام، فالنصوص القطعية خطوط حمراء يجب الوقوف عند حدودها وعدم تجاوز أحكامها.
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
فتاوي متناقضه في الحج
نتيجة الزحام الرهيب
عدد الردود 0
بواسطة:
حفاة الوطن
لماذا لايطالب الازهر تطبيق الاحكام الواردة في نصوص قطعية بالقرآن الكريم كحد الحرابة والسرقة !!
اما خد الزنا فعليه خلاف لان النص الوارد في القرآن الكريم هو مائة جلدة بينما يتمسك اخرون بالرجم على اساس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم طبق حد الرجم قبل نزول نص قرانى عملا بالشرائع السابقة خاصة على اتباع هذه الشرائع وقالوا ان سيدنا عمر كان يجلد ثم يرجم ويقول ان الجلد للفرض والرجم للسنة وبالطبع الفرض اولى بالاتباع وليس السنة وبالتالى فان الجلد هو الاولى عموما مطلوب من الازهر مجهود كبير للتصدى للارهاب اولها تنقية كتب التراث من الحزعبلات التى تتعارض مع النص وهى كثيرة واتمنى ان يكون لدينا تفسير الازهر للقران الكريم تاخذ في الاعتبار الحقائق العلمية المؤكدة بدلا من الموجودة في كتب التراث التى تقول ان الارض على ظهر حوت ان اهتز يحدث زلزال !!!
عدد الردود 0
بواسطة:
محمود
أي يوجد الاضطراب والارتباك ؟
ورد فى مقالك العبارة "بل أثبت واقع الناس الذين لا يلتزمون بأحكام شريعة الإسلام الاضطراب والارتباك". لا أدرى عن أى إضطراب وارتباك تحدثنا ؟ ألا ترى معنا أن الشعوب الإسلامية فى يومنا هذا هم وللأسف الشديد أكثر شعوب الأرض تخلفاً ؟ ألا ترى ما يحدث فى سوريا وفى ليبيا وفى العراق وفى أفغانستان وفى الصومال من تطاحن بين مسلمين ومسلمين وبما لا يخالف شرع الله من وجهة نظر كل من الفصائل المتطاحنة ؟ عن أى إضطراب وإرتباك تحدثنا وهل هناك إضطراب وإرتباك أكثر مما تعيش فيه شعوبنا الإسلامية ؟ لم يعد من المقبول رفض صوت العقل والإستمرار فى تغييب الوعى بعبارات تخالف الواقع الذى نعيشه. إرحمونا يرحمكم الله.