بدعوة كريمة من الأستاذة هند جوزيف، وزوجها الأستاذ روميل صداق، كنت ضيفا على صالون هند الثقافى بالقوصية، حضر الصالون نخبة من مختلف الأعمار والأجيال، فى تنوع ما بين مثقفين ورجال أعمال وموظفين ومزارعين ومهنيين، سياسيين وصحفيين، شيوخ وقساوسة، مسيحيين ومسلمين، شباب وشابات. اتسع ديوان الخواجة «جوزيف» لتقديم نموذج من التسامح والحوار، ووسط فيض الحفاوة والاستنارة، اختلف الحضور فى مودة ورقى وفى آداب للحوار نفتقدها فى العاصمة، الأمر الذى جعلنى أستمتع بالحوار الذى أكد عراقة القوصية كمدينة كانت عاصمة الإقليم (14) من أقاليم مصر الوسطى. هؤلاء المجتمعون أجدادهم أوقفوا زحف الهكسوس على الصعيد، واستقبلوا العائلة المقدسة حينما لاذت بمصر حوالى (185) يومًا فى منطقة أنشئ فيها الدير المحرق فى القرن الرابع الميلادى بسفح الجبل الغربى، وسمى بالمحرق بسبب حرق النباتات والحشائش الضارة لاستغلال أراضيها للزراعة، وعندما أنشئ دير العذراء أصبح حاملًا لاسم هذه المنطقة، وشيد للدير سور ارتفاعه (12) مترًا حول الكنيسة، فتحول الدير، ليشبه فى طرازه سور كنيسة المهد.
يتسع صدر أهل الصالون لما ضاقت به الأوطان وضحكة من القلب وحوار ساخن حول هوية مصر وإن شئت هويات مصر والقوى التى تحكم وتتحكم فى تلك الثقافة: «العسكريين والأزهر والكنيسة القبطية والسلفيين وتيار مدنى ضعيف» وكيف أن المكسب الرئيسى لثورة 1919 كان «الدين لله والوطن للجميع» وعليه ارتكزت الأمة المصرية.. وكيف أن مصر دائما محل اهتمام القوى الدولية وتم غزوها من الهكسوس لقمبيز والإسكندر الأكبر والرومان وحتى الاستعمار البريطانى ثم الصهيونى «24 محتلا» الأمر الذى دفع محمد على إلى تكوين جيش وفى سياقة أسس الدولة الحديثة.. حتى إن كل حكام وأبناء أسرة محمد على تعلموا فى أكاديميات عسكرية أوروبية.. ومن ثم تتالى على حكم مصر من محمد على وحتى السيسى عسكريون.. ودائما كان الشعب المصرى يحتفى بالعسكريين ورجال الدين من المؤسسات الدينية فى ثلاثية «الحاكم والنهروالكاهن» وحول الأزمة الراهنة تم الاتفاق على أن الصراع يدور بين التيار الدينى الإرهابى والجيش ومن الحكمة الانحياز القوات المسلحة كجزء من الشعب وتطرق الحوار إلى أن كل الصراعات والفتن الطائفية تنطلق من أسباب دينية وبعدها تتحول إلى سياسية فى سياق الصراع على السلطة.. ومن صالون هند الثقافى إلى عيد النيروز «رأس السنة القبطية»، يحتفل المواطنون المصريون الأقباط فى 11 سبتمبر «12 سبتمبر فى السنوات القبطية الكبيسة»، الموافق الأول من شهر توت، فى كل عام بذكرى الشهداء المصريين الذين بذلوا حياتهم حتى الموت، من أجل محبتهم للوطن والمسيح من الرومان، فقد أرّخوا لسنة 284 ميلادية، وهى السنة التى اعتلى فيها الإمبراطور دقلديانوس عرش الإمبراطورية، ومنها يبدأ التقويم القبطى، لذلك ينقص التاريخ القبطى عن الميلادى بمقدار 284 سنة.. يحتفل المصريون بأكل البلح رمزا للون الأحمر، لون دماء الشهداء، والجوافة ذات القلب الأبيض، رمزًا لقلب الشهيد، ويعتقد المؤرخون أن العيد متوارث من الفراعنة، ارتباطًا بفيضان النيل، وفى العصر المملوكى كان المصريون جميعهم يحتفلون به فى شهر توت، يتجمعون ويرشون بعضهم البعض بالمياه، ويأكلون البلح والجوافة، ويغطسون فى النيل.. شهور السنة القبطية هى بالترتيب: توت، بابه، هاتور، كيهك، طوبة، أمشير، برمهات، برمودة، بشنس، بؤونة، أبيب، مسرى ثم الشهر الصغير «النسىء» وهو خمسة أيام فقط، أو ستة أيام فى السنة الكبيسة.
ومازالت هذه الشهور مستخدمة فى مصر ليس فقط على المستوى الكنسى، بل على المستوى الشعبى أيضًا، خاصة فى الزراعة، ولقد حذف الأقباط كل السنوات التى قبل الاستشهاد، وجعلوا هذا التقويم «المصرى». وقال المؤرخون، إن عدد الشهداء الذين استشهدوا من مصر فاق عدد الشهداء المسيحيين فى كل العالم، وقد جرى المثل الشهير أن دم الشهداء كان هو بذار الكنيسة.. النيروز، أو عيد رأس السنة المصرية هو أول يوم فى السنة الزراعية الجديدة، وقد أتت لفظة «نيروز» من الكلمة القبطية «نى- يارؤو» وتعنى الأنهار، وذلك لأن ذاك الوقت من العام هو ميعاد اكتمال موسم فيضان النيل. إذن، فالمصريون يبحثون عن الفرحة من قلب الحزن، ومن ثم فهم أكثر الأمم احتفالًا بالأعياد «33 عيدًا» على مدى العام، أهمها الأعياد الدينية، مثل: رأس السنة القبطية والهجرية، عاشوراء، المولد النبوى الشريف، عيد الفطر، عيد الأضحى، عيد الميلاد المجيد، عيد الغطاس، عيد دخول المسيح مصر، عيد دخول المسيح القدس، نياحة العذراء «ذكرى وفاتها»، عيد العنصرة، عيد الصعود.
ومازالت الكنيسة تتذكر شهداءها بالقراءة اليومية فى «السنكسار»، وهو كتاب يحوى سير القديسين والشهداء، وتذكارات الأعياد، ومازال الأقباط يدفعون الشهداء من أجل الوطن جنبًا إلى جنب مع أشقائهم من المواطنين المصريين المسلمين، فى القوات المسلحة والشرطة، ومن المدنيين ضد الإرهاب، وللكنيسة صلوات يومية من أجل الوطن، ومن أجل النيل، ومن أجل الجيش والجنود، والرؤساء، والكنيسة تعريفها الوطنى يسبق تعريفها العقيدى «القبطية الأرثوذكسية، أو الكاثوليكية، أو الإنجيلية» وكل سنة وشهداء الوطن والكنيسة الأبرار نبراس لنا على طريق النصر أو الشهادة.. كل ذلك تذكرته وأنا فى صالون هند الثقافى بالقوصية، تلك التى لاذت بها العائلة المقدسة، وستظل مصر ملاذا لكل من تضيق بهم أوطانهم، ستظل أرضا مباركة، يعمد ترابها بدماء الشهداء من سيناء إلى كل الأنحاء، وتضحك حتى البكاء، وتحلم بالوطن القادم من أعماق الجرح وأحلام المثقفين الذين عايشتهم فى صالون هند الثقافى بالقوصية.. حيث لم أشعر للحظة بأى تعصب لدين أو رأى أو طبقة، ومن ثم أدركت لماذا اختارت العائلة المقدسة القوصية ودير المحرق للاحتماء بسكانها وتحت سمائها فى أمن وأمان.
مشاعر فرح تسود الصالون يتخللها ضحكات حتى وسط سخونة الخلافات، وجاتوه وصورة جماعية، تحية لكل هؤلاء النبلاء الذين يشكلون الكتلة الحرجة والنبل الوطنى والخلاف المتسامح والنقاء الضميرى وعمار يا مصر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة