الجميع يجمع ويتحدث على أننا أعرق وأكثر شعوب الأرض تديناً، نعم ماضينا يشهد بذلك ودائما ما نستحضر شهادة جمس هنرى بريستد فى كتابه الشهير «فجر الضمير»، بل لا ننكر أن حاضرنا يؤكد هذا من ناحية الشكل المشاهد دون الدخول فى عمق الأعماق التى لا يعرف كنهها ولا سرها إلا الله سبحانه وتعالى، ولكن هناك أعمالا وظواهر تدل على الإيمان «الإيمان ما وقر فى القلب وصدقه العمل»، «ليروا أعمالكم الصالحة فيمجدوا آباكم الذى فى السموات»، أما الشكل فهو الذى جعل الجميع فى الداخل والخارج يقول إننا الشعب الأول فى التدين حسب «جالوب»، وفى ذات الوقت لا أحد يختلف على أننا نعانى انهياراً أخلاقياً خطيراً لم نشهد له مثيل، هذا الانهيار وذاك التدهور طال حياتنا ومعاملاتنا وقيمنا وأخلاقنا وسلوكنا، أى أنه طال كل أوجه الحياة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، فهل من الطبيعى أن هذا الشعب الذى يصف نفسه بالمتدين يؤشر موقع جوجل بأنه الأول فى تصفح المواقع الإباحية؟ كما أننا نرى جرائم الاغتصاب التى تصل إلى ألف جريمة فى الأسبوع، إضافة إلى حوادث القتل المخزية التى نرى فيها إهداراً لقيم الحياة وإسقاطاً لكل معانى الشرف، فالابن يقتل أباه والأب يغتال ابنه والرجل يقتل زوجته وأولاده والأم تضحى بفلذة كبدها فى سبيل عشيقها، ناهيك عن جرائم زنا المحارم التى تعدت كل الحدود وأسقطت كل القيم وتجاوزت كل الخطوط الحمراء والصفراء، الأب يعتدى على ابنته والأخ على شقيقته والعم على ابنة شقيقه.. إلخ. ناهيك عن العنف والمخدرات والبذاءات وكسر القانون وإسقاط القيم واستمراء الفوضى وتحليل الرشوة وإعطاء الشرعية لكل صنوف الفساد، أما البذاءات فقد تجاوزت ما لا يجب أن يتم تجاوزه على مرأى ومسمع الجميع والبركة فى وسائل الإعلام، وهناك من يوعز ذلك الانحلال لمبررات كثيرة مثل الازدحام وكثرة السكان، وكأن العالم لا يوجد فيه أكبر من مصر عدداً فلا يوجد الصين والهند وإندونيسيا وهى بلاد كانت الأقرب إلينا أو كنا الأقرب إليها.
يقولون آثار نكسة 1967 التى مضى عليها 50 عاماً الآن، وهناك من يلقى الحزمة بكاملها ما يرى منها وما لا يرى وما سيرى على نظام عبد الناصر الذى لم يعد لنظامه وجود حقيقى بعد انفتاح السادات السياسى والاقتصادى 1974. هنا يمكننا أن نجرؤ ونقول إن هناك أسبابا كثيرة كانت هى الأرضية التى نمى فيها ذلك المناخ وتربت عليها تلك الأخلاق ولكن الأهم ارتباطاً بعنوان المقال «التدين والفساد»، نقول بالرغم من أن التدين والفساد لا يتفقان ولا يتوافقان، بل هما نقيضان بكل معنى الكلمة، ولكن للأسف أن الاشكالية الحقيقية هى ليست الدين ولكنها التدين الشكلى الذى يأخذ من الدين الشكل ويتدثر بطقوسه ويدعى قيمه ويتاجر بالادعاء بالمحافظة على ذلك الدين «أى دين فالدين لمعتنقيه واحد سواء كان مسلماً أو مسيحياً أو بوذياً»، ولذلك يصبح هذا التدين تدينا شكليا لم يقترب من الجوهر ولم يمس الروح ولم يملأ شغاف القلب إنما يتمسك بالمظهر فقط وبالكلام، التدين الشكلى هو السبب المباشر لهذا الفساد الأخلاقى، وذلك الانحلال المجتمعى، حيث إنه يؤدى إلى تشوهات نفسية وعيوب يصعب علاجها حسب علماء النفس، فالتدين الحقيقى هو الذى يربط الإنسان بعلاقة روحية مع الخالق فيشعر الإنسان بعظمته وسموه فيحافظ على هذه العلاقة ويحوطها بالأعمال الحسنة ويسيجها بالقيم النبيلة، حيث إنها تشعر المخلوق بمحدوديته أمام الخالق فيعرف حدوده ويدرك دوره ويلتزم بمسؤوليته، حيث يرى الإنسان الله مطلقا وقويا وهو الضعيف المحتاج، عندما نعتمد على القادر المانح لا نحتاج بشراً ولا نسعى لفساد.
التدين الشكلى هو الارتباط بالمقدسات والطقوس دون الارتباط بالله وبقيمه، هنا تتضخم الذات بدل من أن تتضاءل وتنتفخ بدلا من أن تتواضع حيث يتصور الإنسان أن بهذا التدين الشكلى قد أدى واجبه. فسعادته لا علاقة لها بسعادة الآخرين ومشاكله فلتحل على حساب مشاكل الآخرين، فتسيطر شهوة الذاتية ويسود الشعور بالأفضلية على الأخرين، فلا يرى الإنسان خطاياه بل يبررها على أرضية دينية بما يضفى عليه مصداقية كاذبة، هذا التدين الشكلى الذى جعلنا نتظاهر بالطقوس ونرتاح للمظهر دون الجوهر، فنلبس الصليب ونتباهى به ويدق الشباب صور القديسين على الصدور والأكتاف ونطلق اللحى ونرتدى الزى الباكستانى الذى لا علاقة لنا به، وتصبح تلك الممارسات الشكلية وكأنها الدين والتدين ومن يعترض هو ضد الدين ويحارب التدين، ولذا وجدنا انحرافاً يصل إلى حد الفجور، مستغلاً ذلك التدين الشكلى فوزير ونائبة محافظ يرتشون بزيارة الحج، وكأن الحج الذى هو أحد الفروض الإسلامية المرتبط بمقدرة الإنسان المالية تصبح طريقه الرشوة «غفر لنا الله جميعاً»، نرى القادر هو المرتشى والواصل هو الفاسد، والمتدين الشكلى هو الذى يهدر قيم الدين، الدين هو المعاملة وهو صدق الأخلاق ومكارمها، هو الخضوع لله قولاً وسلوكاً، كفى تمسحاً بالشكل، كفى تديناً لا يرتبط بقيم الدين، نريد إيماناً صحيحاً وقيم ومقاصد الأديان ذلك الإيمان المصرى الذى شكل هوية مصر وأرسى حضارتها وحافظ عليها، فالله خص مصر بأنها حامية لكل الأديان السماوية. حمى الله مصر وشعبها العظيم.