عباس شومان

الحضارة الإسلامية بين الأمس واليوم

الجمعة، 22 سبتمبر 2017 11:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
عندما فكرت فى كتابة هذا المقال عن الحضارة الإسلامية وإسهاماتها استحضرت الواقع الذى تمر به الأمة الإسلامية اليوم، ووجدت نفسى أمام عدة تساؤلات: هل الأمة الإسلامية اليوم عاجزة عن أن تستعيد مكانتها الحضارية والعلمية الرائدة فى المجالات كافة؟! وهل عقمت الأرحام عن ولادة علماء أفذاذ كالذين أثروا الحضارة الإسلامية وأسهموا فى أصول الحضارات الأخرى؟! وإلى متى ستظل أمتنا متخلفة عن ركب حضارات كانت تقودها بالأمس القريب؟!
 
وبعد تأمل أدركت أننا أمام حالة من فقدان الذاكرة التاريخية للتقدم العلمى والثقافى والحضارى الذى عاشته أمتنا الإسلامية فى عصور مجدها وريادتها، وحتى لا يتسرب اليأس إلى نفسى استحضرت صورًا ونماذج كثيرة لعلماء يعيشون بيننا اليوم أسهموا بشكل كبير فى تحقيق النهضة العلمية فى العديد من المجالات، وأسماء هؤلاء العلماء وما قدموه للبشرية جميعًا لا تغيب عن ذاكرتنا مثل الراحل الدكتور أحمد زويل، والدكتور فاروق الباز، والدكتور مصطفى مشرفة، وغيرهم كثير ممن امتلأت بهم وبأعمالهم الرائدة جامعات أوروبا وأمريكا.
 
إن أمتنا الإسلامية اليوم تواجه تحديات كثيرة تكمن فى مواجهة الفوضى الفكرية التى يمثلها تياران كلاهما أشد خطرًا من الآخر: الأول تيار صاحب فكر متشدد يسىء للإسلام ويستغله أعداء الأمة لتفتيتها والقضاء على وحدتها، والثانى تيار منفلت فكريًّا منحل أخلاقيًّا يحاول هدم الحضارة الإسلامية وسرقة عقول الشباب وتوجيههم إلى سفاسف الأمور وأتفهها، متخذًا من إثارة الرأى العام وشغله بأمور لا طائل من ورائها ذريعة لتحقيق مآربه الخاصة، وكلا التيارين شر يجب مواجهته والقضاء عليه.
 
وعلى الرغم من الاضمحلال والتردى الذى يشهده العالم الإسلامى اليوم، فإن الحضارة الإسلامية ستظل الأرقى بمكوناتها الدينية والثقافية والإنسانية، لأنها قامت على أسس شرعية صحيحة راسخة نقية، تهدف إلى صلاح الناس جميعًا وفلاحهم، ومن يقرأ تاريخ الحضارة الإسلامية فى عصور ازدهارها وريادتها سيدرك أن محاولات جرنا إلى التبعية الثقافية والحضارية للغرب اليوم ليست، لأنه الأفضل أو الأرقى أو الأكثر تطورًا وتقدمًا، بل لأننا نحن المسلمين أدرنا ظهورنا لحضارتنا وثقافتنا وأمجاد أمتنا وتركنا ما يرفع شأننا ثقافيًّا وحضاريًّا وعلميًّا للآخرين، فتلقفه الآخرون وأخذوا منه أسباب التقدم والرقى وبنوا عليه أصول حضارتهم الحديثة، فأمسينا نحن ضعفاء تابعين وأصبحوا هم أقوياء متبوعين، بعدما كنا أمة لها تراث عظيم وثقافة راقية فى ظل دين لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فتطور الغرب وتخلفنا، وتقدم وتراجعنا، ولما كان كثير من المسلمين اليوم يجهلون أو يتجاهلون تاريخ أمتهم الإسلامية وأمجادها، فلم يكن غريبًا أن يعرضوا عنه ويلهثوا وراء ما لدى الأمم الأخرى الذى هو بضاعتنا وتراثنا فى الأساس!
 
وإذا عدنا للتاريخ ونظرنا إلى إسهامات الحضارة الإسلامية وما قدمه علماء العصر الذهبى للإسلام، فسنرى كيف كنا وكيف أصبحنا، فهناك اتفاق بين مؤرخى العلوم–ومنهم من ليسوا بمسلمين–على أن ما قدمه العلماء المسلمون الأوائل فى مختلف العلوم هو الأساس الذى تقوم عليه النهضة العلمية الحديثة اليوم فى الغرب، وأن المسلمين اختلفوا عن غيرهم من الأمم فى أنهم لم يجدوا أى حرج أو تناقض أساسى بين معتقداتهم الدينية والقوانين التى تحكم الطبيعة، فأخذوا بأسباب العلم متمسكين بتعاليم دينهم ومتحصنين بثقافتهم الإسلامية.
 
لقد اهتم العلماء المسلمون بمختلف العلوم وعملوا على وضع أصول نظرية لها وتطويرها، ومنها علوم كان لهم سبق ابتداعها ووضع أصولها ومناهجها، مثل الجبر والبصريات وبعض تفرعات الفلك والطب وغيرها، ففى القرون الهجرية الستة الأولى انتشرت دار الإسلام من الهند إلى الأندلس، وكانت بغداد وقرطبة مركز الخلافة والبحث العلمى، ولم يقتصر الخلفاء على إجراء الحكم العادل، ولكن كان كثير منهم نصيرًا للعلوم والمعارف ومشجعًا لها، بل كان بعض الحكام علماء متخصصين فى علوم مختلفة، فشجعوا العلماء البارزين وعضدوهم فى أبحاثهم وتجاربهم، فتُرجمت إلى اللغة العربية سلسلة كبيرة من أعمال الهنود والإغريق وغيرهم فى العلوم والفنون المختلفة، وهى الأعمال التى أعاد الأوروبيون ترجمتها إلى اللاتينية. وكانت مدينة بغداد مركزًا للعلوم والمعارف فى ظل الخلافة الإسلامية، وأسس الخليفة المأمون–وهو عالم وفيلسوف–«بيت الحكمة» المشهور، وهو مكتبة جامعة ومجمع علمى وأدبى ودار للترجمة. ونشطت الحركة العلمية وازدهرت الترجمة خاصة فى العصر العباسى، فتُرجمت مؤلفات بطليموس وإقليدس وأرسطو وغيرهم، وانتقلت من بغداد إلى البلاد النائية مثل صقلية والأندلس وغيرهما، ومن ثم انتقلت العلوم والمعارف إلى أوروبا فى العصور الوسطى من خلال الجامعات الأندلسية الإسلامية.
 
وفى الأندلس «إسبانيا حاليًّا» بدأ المسلمون فى تأسيس حضارة متفوقة جعلت منها أجمل وأغنى البلدان الأوروبية، فأُنشئت مدن كبيرة مزدهرة لم يكن لها نظير على وجه الأرض، خططها مهندسون عباقرة وشيدها بناءون مهرة، فغدت قرطبة عاصمة الأندلس مركز الثقافة والعلم لبلدان أوروبا قاطبة، وكانت شوارع العاصمة تزيد على عشرة أميال طولًا وقد عُبِّدت وتمت إنارتها فى الوقت الذى كانت فيه شوارع عواصم أوروبية أخرى مثل لندن وباريس ترابية وعرة، وكان الناس فيها يشقون طريقهم فى أثناء الليل فى ظلام حالك بصعوبة شديدة، ويخوضون فى وحل عميق بعد هطول الأمطار. ويكفى أن نذكر فى هذا السياق ما قاله المؤرخ والفيلسوف جورج سارتون فى كتابه تاريخ العلم: «إن علماء الإسلام والعرب عباقرة القرون الوسطى، وتراثهم من أعظم مآثر الإنسانية. إن الحضارة العربية الإسلامية كان لا بد من قيامها. وقد قام العرب بدورهم فى تقدم الفكر وتطوره بأقصى حماسة وفهم، وهم لم يكونوا مجرد ناقلين كما قال بعض المؤرخين، بل إن فى نقلهم روحًا وحياة. فبعد أن اطلع العرب على ما أنتجته قرائح القدماء فى سائر ميادين المعرفة، نقَّحوه وشرحوه وأضافوا إليه إضافات مهمة أساسية تدل على الفهم الصحيح وقوة الابتكار»، وقال المؤرخ الفرنسى دريبار: «نحن الأوروبيين مدينون للعرب بالحصول على أسباب الرفاه فى حياتنا العامة».
 
إن علماء الأمة جميعًا مطالبون بأن تتضافر جهودهم وتتوحد كلمتهم ويسعوا جاهدين مخلصين لمواجهة ما لحق بأمتنا الإسلامية من تراجع وإخفاق بكل جرأة وشجاعة، وأن يعملوا على إعادة أمجاد حضارتنا الإسلامية وريادتها فى المجالات كافة، ويعكفوا على وضع رؤية شاملة تعيد بناء وصياغة فكر شباب الأمة بما يحميهم من التغريب والتفريط فى الهوية بتأثير أفكار متشددة أو منفلتة لا تتفق مع تعاليم إسلامنا ولا تناسب حضارتنا الراقية، وعلينا أن نعيد رسم التاريخ الإسلامى من جديد، وتضمين سيرة علماء الإسلام البارزين فى العلوم المختلفة فى منهج دراسى يقرر فى مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا ليدرك أبناؤنا وبناتنا كيف كان أجدادهم ويتأسوا بهم ويسيروا على دربهم.

 







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة