"كأني فلاح من جيش عرابي/ مات ع الطوابي/ وراح فى بحرك/ كأني نسمة فوق الروابي/ م البحر جاية/ تغرق فى سحرك/ كأني كلمة من عقل بيرم/ كأني غنوة من قلب سيد/ كأني جوا المظاهرة طالب/ هتف باسمك" هذا ما قاله الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم أما أنا .. لا أعرف على وجه التحديد ما الذي يربطني بمدينة الإسكندرية؟ ولا أدري شيئا عن السر الكامن فيها حتى أراها كل مرة بهذا السحر والجمال صيفا وشتاءً .
لى رحلة أحرص عليها سنويا إلى مدينة الإسكندرية ، وتبدأ رحلتي من وصولى محطة مصر مرورا بشارع النبي دانيال حتى محطة الرمل، ثم أنتشر جنوبا أو شمالا شرقا أو غربا ، حسب ما تقود المدينة خطواتي، وحسب ما تريد هى مني أن أرى .
طوال الوقت أفكر فى الاكتشافات الجديدة التى سآراها فى المدينة السحرية، فمنذ سنوات أذهب إلى الإسكندرية لكنها لم تنته أبدا ولم تبهت رؤيتها، فلا تزال فى كل مرة تتكشف كنوزها أمامي جزءا جزءا، وتصيبني فى كل مرة متعة جديدة كأنني أرى المكان وناسه للمرة الأولى .
فى الإسكندرية تجد جزءا من نفسك، تشعر بأن الأشياء لها طبيعة مختلفة وأن استقبالك لكل شيء مختلف، خليط بين الرحلة والإحساس بالتحقق .
فى الإسكندرية يصادفك بائع كتب قديمة يعرض كتبه بشكل منظم لم نعد نراه فى أي مدينة أخرى، طريقته فى احترام الكتاب تستوقفك لتتأمل كيف يفعل ذلك بهذه الدقة، وفى الإسكندرية تجد أناسا مستعدين للإجابة عن أسئلتك البديهية، ومستعدين أن يبذلوا المجهود من أجلك، فهم يعرفون مقصودك من الكلام ويفهمون "النكتة" ويعرفون سبلا متنوعة للتواصل معك.
فى الإسكندرية تصلى ركعتين فى مسجد تلقاه مصادفة، فإذا هو لأحد أولياء الله الصالحين، وفى رحابه تشعر بطمأنية وإنسانية غابت عنك منذ زمن، تشعرك الراحة النفسية التى تلتقيها هناك بأنك فى لحظة نادرة لن تتكرر كثيرا، وتدفعك للتفكر فى حياتك كلها، وتراجعها وتكشف غلظة قلبك التى تخفيها وراء الصمت وقلة الكلام.
فى الإسكندرية يكشف لك شاطئ المدينة ، أن نظرتك قصيرة جدا، وأنك مهما تظن أنك اجتزت الطريق ووصلت، ستعرف أنه لا يزال هناك الكثير من المنحنيات والتقاطعات، فالتعرجات الموجودة على طول الطريق تخفى وراءها الكثير، وكلما ظننت أنك امتلكت الشيء تجده بعيدا تماما ولا يزال هناك الكثير عليك أن تفعله حتى تصل إلى الغاية التى تقصدها.
فى الإسكندرية لا يزال البحر قادرا على الحركة يكره الثبات ، تتوالى موجاته منذ قرون وقرون ، تتأمل ماءه وتسأله أي شط آخر لمست أيها الماء قبل أن تأتى إلى هنا، وكم عينا رأتك قبل أن آراك؟.
فى الإسكندرية لن تعجبك اللافتات المنتشرة على طول الكورنيش، لأن معظمها قديمة لم يتم تجديدها، ولأن بعضها يحمل جملا تقليدية ومستهلكة مثل "الإسكندرية عروس البحر المتوسط" أو "الإسكندرية موجة حب على أرض مصر".
فى الإسكندرية ستسأل نفسك متى ينتهى العمل فى محطة مصر، ومتى تنجز الشركة المسئولة مهامها المعمارية التى تجعل المكان مزدحما بمخلفات البناء والتشطيبات.
سوف تعود من الإسكندرية إنسانا مختلفا بعدما وقفت مسافة كافية لتأمل نفسك القديم.