الارتباك القائم فى النخب المصرية وعدم قدرتها على قراءة الواقع الموضوعى لاينفصل عن ارتباك «وقلة حيلة أغلب النخب القبطية»، خاصة فى عدم إدراكها للمتغيرات العالمية والإقليمية، والتوقف فقط أمام مطالب مشروعة ولكن إدارة الأزمة بشكل «دينى» وليس بشكل مدنى، وبرؤية «اجتزائية» وليست كلية.
أتابع منذ أربعين عاما الحالة المسيحية، لم أشهد كل تلك التناقضات السياسية والاجتماعية فى الوسط المسيحى بشكل يحير أى باحث، لو توقَّفنا على سبيل الدلالة أمام اتِّجاهات الرأى فى القطاعات المختلفة من النُّخب القبطية.. سنجد نزوحًا للتباين بين مختلف هذه النخب، وكأننا أمام مسيحيين أصحاب ثقافاتٍ مختلفةٍ وليسوا أبناء وطنٍ واحدٍ. منذ 2010 وحتى الآن هناك أربع فئات من النخب المسيحية (فئة خرجت من الكنيسة للوطن، وفئة أخرى خرجت بالكنيسة للوطن، وفئة ثالثة تسعى للخروج بالأقباط من الوطن) ورابعة تقدم الاحتجاج الروحى محل الاحتجاج بالتظاهر، ولا يجمع بين هذه الفئات الأربعة سوى انتماؤهم للكنيسة.
الفئة الأولى: خرجت من الكنيسة للوطن: وهى التى تمردت على الكنيسة وتبنَّت مواقف ومساراتٍ تنصب على نقد الكنيسة والإكليروس، ومَن يتتبَّع خطاب تلك الفئة (مثال أقباط 38) يتأكد أنها لم تخرج بعد من الكنيسة، وهم يتمسكون بالكنيسة وفق وجهة نظرهم ولا يعنيهم غير ذلك.
الفئة الثانية: خرجت بالكنيسة للوطن: الاحتجاجُ المسيحىُّ الأول 2010 أمام محافظة الجيزة بعد أحداث كنيسة العمرانية، ثم المظاهرات التى تَلَت تفجيرات كنيسة القديسين بالإسكندرية. ومن يراجع قضية (مسرة بشبرا) سيجد أنها ضمت- للمرة الأولى- مسلمين ومسيحيين، ورفعت شعارات ترددت فيما بعد فى ثورة 25 يناير. وما تلى ذلك من تطورٍ موضوعى من صدام ماسبيرو وكسر طوق الخوف الذى كان يطوق عنق المواطنين المصريين الأقباط، الأعوام الثلاثين الماضية، هذا التطور الموضوعى للخروج بالكنيسة بدأ برفع الصلبان فى المظاهرات كرد فعلٍ لحرمانهم من رفع الصلبان على الكنائس، ثم اصطحابهم لبعض الكهنة فى الاحتجاجات مثل الآباء متياس وفلوباتير، ولعل ذلك التطور من ماسبيرو للتحرير والذى جعل الهلال والصليب يتماهيان هو أحد العوامل المهمة التى خلقت الذعر بين التيارات الإسلامية وعجلت بوحدة المصالح بينهم و«الغزوة الإخوانية السلفية» للوعى المصرى والثورة.. ومازالت هذه الفئة تكافح ضد التمييز والاضطهاد ولكنها لم تجدد رؤيتها، وتعيد قراءة ما بعد 30 يونيو فى ضوء تحديد العدو الرئيسى للأقباط وأولويات المرحلة.
الفئة الثالثة: تسعى للخروج بالأقباط من 30 يونيو: برزت فى مواحهة انتقال مركز ثقل «المعارضة القبطية» من المهجر إلى مصر، وجعلت شخصيات من أقباط المهجر تنقل نشاطها فى مصر ولكنها غيرت من وجهتها بعد 2016، وانقلبت إلى العكس ثم استغل هذا التيار «الاضطهاد الدينى» الذى مارسته بعض التيارات السلفية ضد الأقباط، وبدأوا فى «القصف العشوائى» للنظام والكنيسة وأحيانا المجتمع، دون دراية بالتمييز أو الحكمة التى تحملها الخبرة التاريخية للأقباط على مر العصور.. ولكن تلك الجماعات تلعب دورا لإخراج الأقباط من 30 يونيو بوعى أو بدون وعى.. الأمر الذى يضر بمصالح الوطن والأقباط.
الفئة الرابعة: رجال السلطة والمتأقبطين: هؤلاء أغلبهم تجدهم فى الصفوف الأولى بالأعياد فى الكاتدرائية ليتلقون الشكر من صاحب القداسة الأمر الذى يعضدهم عند السلطة، وبعضهم يعتبر نفسة «قبطيا مهنيا»، ويتنقلون من مؤسسة إلى أخرى مدعين حل مشاكل الأقباط وهم ينتفعون من القضية لا أكثر ولا أقل، هؤلاء لايعنيهم لا الدولة ولا الكنيسة ولا الأقباط ومنهم من لعب نفس الدور فى كل العصور حتى مع الإخوان.
معضلة تيار الإسلام السياسى، وعلاقته بالدولة وبالمؤسسات الدينية، هذا التيار موجود وله أرضية «شعبية»، وسمحت له من 2005 مؤسسات الدولة بالعمل والحركة فى الشارع والتمثيل النيابى، وفى نفس الوقت لم يقدم هذا التيار أى رؤية حداثة توافق الدستور حول رؤيته لحقوق المختلفين مع رؤيتة الدينية، بل كان يجنح قادة هذه التيار إلى استخدام خطاب إقصائى لهم، استخدم نظام مبارك هذا التيار لتسويق فكرة فزاعة البديل الإسلامى.
لكن هناك متغيرات عميقة تجرى تحت السطح بظهور جيل جديد من المعترفين الجدد يجيد المقاومة السلمية والاحتجاج «الروحى الليتورجى»، ومن ثم رسم هذا الجيل شعار: «حق الصلاة مكفول فى أى مكان».. وهياكل الله فينا هياكل لحمية وليست حجرية، وهكذا حل «الاحتجاج بالصلاة» عندهم على «الاحتجاج بالتظاهر، قيادات من الشباب يقومون بتنظيم الصلاة وجمع التوقيعات وإرسالها للرئيس السيسى والمؤسسات حتى استجابت الرئاسة لمطالبهم فى سرعة واحترام والتى لم يملك البعض من النخب القبطية تجاه ذلك المتغير سوى الصدمة وتأويل الاستجابة إلى أن الأمر ليس استجابة لهؤلاء القادة الجدد ولضغوطهم من أجل المواطنة بل حولوا الأمر إلى تفسيرات تخضع الدينى للسياسى وتخلط الأوراق، عكس قيادات طبيعية ولدت بنار «الفرن» من غير ضجيج ولا «شو إعلامى» مثلما يفعل أصحاب الياقات البيضاء من «الأراخنة» الذين يجلسون فى الصفوف الأولى بالأعياد فى الكاتدرائية منتظرين الشكر على صلاتهم!! قيادات حفروا الوطن على جبينهم والكنيسة فى قلوبهم، مختلفين عن أصحاب الألقاب التى تقدم نفسها مهنيا فى انتساب لأصحاب القداسة تحقيقا لمصالحهم.. لذلك كانت فرحة هؤلاء «المعترفين الجدد» بأعادة افتتاح هذا المكان الردىء التهوية والبسيط أكثر من افتتاح أكبر كاتدرائيات العالم، لأن هذا المكان تقدس بالصلاة والدموع والمقاومة الروحية.
هؤلاء هم الأمل فى استخدام آليات التفاوض، والربط بين مطالب الأقباط والإصلاح الوطنى والديمقراطى والدينى الشامل، فى ظل وطنية الكنيسة والنضال من أجل الدولة الوطنية الحديثة، التى تروى كل يوم بدماء الشهداء.