حينما قررت وزارة الخارجية الأمريكية فى 22 أغسطس الماضى اقتطاع 300 مليون دولار من المساعدات الاقتصادية والعسكرية المقدمة إلى مصر، خرجت بعض الأصوات يغلب عليها الطابع الإعلامى لتضع تفسيرات غير مؤكدة بشأن هذا القرار الأمريكى الغريب، الذى جاء فى وقت تتسم فيه العلاقات المصرية الأمريكية بالقوة والمتانة، خاصة بعد مجىء دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة، وما تبع ذلك من تأكيدات أمريكية حول أهمية العلاقة مع القاهرة، خاصة فى ظل وجود الرئيس عبد الفتاح السيسى.
التفسير الظاهرى للقرار الأمريكى أنه مرتبط بأوضاع حقوق الإنسان فى مصر، وهى جملة مطاطة اعتدنا سماعها من المسؤولين الأمريكيين والغربيين، وعادة ما تكون مرتبطة بقضايا سياسية، لا علاقة لها بمسألة حقوق الإنسان، وفى الحالة التى أمامنا يمكن القول إن القرار الأمريكى إذا كان بالفعل راجعاً لموضوع حقوق الإنسان، فهو فى الأساس متعلق بإقرار البرلمان المصرى لقانون الجمعيات الأهلية، وإصداره، وما تلى هذا القانون من انتقادات خارجية، خاصة أن القانون يقنن عمل الجمعيات وما تتلقاه من تمويلات خارجية، عادة ما تستخدم فى تنظيم فعاليات سياسية هدفها تأليب الرأى العام على الحكومة، وهو ما أغضب الجهات الخارجية الممولة التى كانت تريد أن تستمر فى ضخ أموالها إلى جمعيات بعينها فى مصر دون أن تخضع لمراقبة من الدولة، كما أن متلقى هذه الأموال غضبوا من القانون وحرضوا ضده فى الخارج.
بخلاف الموقف الأمريكى المعلن، فهناك اتجاه فى الإعلام الأمريكى لربط القرار بموضوع آخر، وهو العلاقة بين مصر وكوريا الشمالية، وهو ما نشرته صحيفتا نيويورك تايمز وواشنطن بوست، ورغم أن الخارجية الأمريكية على لسان المتحدثة باسمها هيذر نويرت، ردت على هذه التقارير بقولها: «ما أستطيع قوله عن هذا هو أننا تحدثنا كثيرا عن قلقنا بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان، ووضعنا قائمة بالنقاط التى تقلقنا بشأن مصر والاتجاه الذى تسير فيه»، وأضافت: «أما فيما يتعلق بكوريا الشمالية ومصر، فنحن نواصل العمل مع الحلفاء والشركاء، ومصر واحدة منهم.. أجرينا محادثات مع مصر ودول أخرى كثيرة حول العالم عن الحاجة إلى عزل كوريا الشمالية، ونحن نفعل ذلك لأننا ندرك أن الدول التى لديها أعمال مع كوريا الشمالية تسمح بوصول المال إلى البرامج الصاروخية والنووية غير الشرعية لكوريا الشمالية»، مؤكدة أن «هذا يشكل مصدر قلق كبير لنا وللمجتمع الدولى أيضا.. لدينا علاقة قوية مع مصر ولدينا مناطق كثير للتعاون المشترك، ولكن كوريا الشمالية بشكل عام تمثل مصدر قلق كبير للولايات المتحدة».
رغم الرد الأمريكى الواضح فإن وسائل الإعلام الأمريكية لا تزال تسير فى نفس الاتجاه، فقبل يومين نشرت مجلة «ذى دبلومات»، مقالا تحدث فيه خبير العلاقات الدولية سامويل رامانى عما أسماه السبب غير المعلن لتخفيض العلاقات الأمريكية لمصر، وهو علاقة مصر التجارية بكوريا الشمالية، وهو ما يؤكد أن هناك نية لدى البعض فى واشنطن للعب على هذا الوتر بهدف إفساد العلاقات بين القاهرة وواشنطن، خاصة أن الاتجاه العارم حالياً فى واشنطن وداخل دوائر صنع القرار هو ملاحقة كوريا الشمالية وزيادة الضغط عليها، باعتبارها أكبر مهدد للأمن الأمريكى ولحلفاء واشنطن أيضاً، ومن هنا جاء تفكير البعض فى واشنطن ممن لا يحبذون حدوث تحسن فى العلاقة بين القاهرة وواشنطن، فبدأوا فى دق آسفين عبر هذا السيناريو الذى أتوقع أن يأخذ حيزا ليس بقليل من التناول الإعلامى الأمريكى خلال الأيام المقبلة، وتحديداً من وسائل الإعلام المحسوبة على الديمقراطيين، وأيضاً تلك التى تتلقى تمويلات خارجية ومنها أيضاً المراكز البحثية التى تنشط بأموال قطرية، مثل بروكنجز وغيرها من المراكز التى عادة ما تكون تقاريرها موجهة لمن يدفع.
مبدئياً وقبل كل شىء فإن مصر دولة ذات سيادة، ولها الحق فى إقامة علاقة مع الدول التى ترى أن مصالحها تسير معها، مادامت هذه العلاقة لا تؤثر سلباً على الأمن الإقليمى والدولى، ولا يحق لأحد ولا لدولة مهما كانت أن تحجر على حق مصر فى تحديد الدول التى تحتفظ بعلاقات سياسية ودبلوماسية معها، وأعتقد أن هذه الرسالة واضحة للجميع، أما فيما يتعلق بكوريا الشمالية، فما أعلمه أن علاقة مصر بها لا تتجاوز الأطر الدبلوماسية، وهى بالفعل علاقات قديمة، ولا ننسى أن كوريا كانت من الدول المساندة لمصر فى حرب أكتوبر 1973، بإرسالها طيارين مقاتلين كوريين إلى مصر آنذاك، وهناك علاقات اقتصادية تربط القاهرة ببيونج يانج بدأت عام 1957، وتطورت إلى مرحلة إقامة العلاقات القنصلية عام 1961، ثم الإعلان عن تبادل التمثيل الدبلوماسى عام 1963، وافتتحت السفارة المصرية فى بيونج يانج فى 26 نوفمبر 1963 على مستوى قائم بالأعمال، وتم رفع درجة التمثيل إلى مستوى السفراء فى 1965.
هذا هو شكل العلاقة بين القاهرة وبيونج يانج، والمتتبع لهذه العلاقة على مدار السنوات الماضية، سيجد أن مصر لم تكن أبداً طرفاً فى أى صراع دولى أو أقليمى، بل إنها دوماً تكون طرفاً أصيلا فى وضع الحلول، وليس التعقيدات، فمصر لم تكن أبداً الدولة التى تبنى علاقتها مع الدول على أساس الإضرار بمصالح دول أخرى، والكل يشهد بذلك، لأن القاهرة تتبنى سياسة دولية شريفة، لا تعادى أحدا، وهو ما يجب أن تستوعبه الإدارة الأمريكية جيداً، حتى لا تقع فريسة لتقارير مأجورة تحاول أن تفتئت على مصر.