فى كل قرية مصرية شهداء راحوا دفاعا عن شرف مصر وكرامتها، شهداء سالت دماؤهم فى حروب ضد إسرائيل وأعوانها فى أعوام 1948 و1956 و1967 و1973، وحاليا ضد إرهاب أسود يتوهم أنه باستطاعته إعادة الساعة إلى الوراء.
ولأن الذكرى تنفع المؤمنين، أتمنى ألا تعطب ذاكرة كل بلد فى مصر فتنسى شهدائها، نعم تمر الأيام، وتتوالى الأحداث، ويذهب جيل ويأتى جيل، وننتقل من حال إلى حال، وننسى أشياء ونتذكر أخرى، لكن الشىء الذى يجب أن يبقى هو سيرة كل الصالحين الذى أعطوا ولم يأخذوا، والشهداء هم الأصل فى كل ذلك، فلولاهم ما تفوق متفوقون، وما نجح ناجحون، وما تواصلت أحلامنا من أجل غد مشرق نسعى إليه.
عاشت قريتى «كوم الآطرون» مركز «طوخ» محافظة «القليوبية»، حروب مصر كباقى القرى، وقدمت الشهداء، وعاشت أحزانها مع رحيلهم، ولأن الزمن يبعدنا كل يوم عن تلك الأيام التى صعد فيها هؤلاء الشهداء إلى ربهم أحياء يرزقون فمن الطبيعى أن تتوالد أجيالا لا تعرفهم ولا تسمع عنهم شيئا.
لهذا أهديت مجلدى الثانى «ذات يوم- يوميات ألف عام وأكثر» إلى شهداء قريتى وهم أربعة: على عبدالسمع عيد «شهيد حرب اليمن عام 1962» وفرحات السيد فرحات «شهيد حرب 5 يونيو 1967»، ومختار عبدالشافى قاسم «شهيد حرب الاستنزاف 1968» و«سعيد إمام على سليمان «شهيد حرب 6 أكتوبر 1973».
كان دافعى فى الإهداء ومازال هو تنشيط الذاكرة، وتحصينها ضد النسيان، فلا يصح أن نرى أسماءهم فقط مكتوبة على قبورهم، ودافعى أيضا أن أبعث برسالة إلى كل الأجيال التى لم تعاصر هؤلاء تقول لهم: «هؤلاء كانوا بيننا وضحوا من أجلنا»، وتقول لهم كما قال الشاعر محمود درويش: «ورأيت الشهداء واقفين، كل على نجمته، سعداء بما قدموا للموتى الأحياء من أمل».
هؤلاء الشهداء الأربعة من قريتى كانوا زينة شبابها وأصبحوا زينة تاريخها، لم أرَ الحال كما لم يرَ غيرى من الأجيال التى تلت حال البلدة حين تلقى أهلها خبر استشهاد على عبدالسمع فى حرب اليمن، فقد كنت طفلا رضيعا، لكننى سمعت فيما بعد أن الأهل تلقوا الخبر بعد استشهاده بنحو ستة أشهر وكانت عروسه تنتظره، وتم دفنه فى مقابر الشهداء فى اليمن، وهكذا ارتبطت بلدتنا باليمن الحبيب بواسطته، حيث سالت دماؤه على أرضها ودفن فى ترابها، وانطبقت عليه الآية الكريمة: «وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأى أرض تموت».
أما الشهداء الثلاثة، مختار عبدالشافى وفرحات السيد وسعيد إمام، فمازال ماثلا فى ذاكرتى ما رأيته وأنا طفل من حزن عام فى البلدة حين كان الأهل يتلقون خبر كل شهيد، واثنان من الثلاثة هما «مختار» و«سعيد» كانا أيضا يستعدان للزفاف، أما «فرحات» فلم يهنأ بوليده رأفت، وهو الآن من أمهر عازفى الناى.
الشهداء الأربعة لا يجتمعون على الفخر بالانتساب إلى جاه المال وأبهة المنظر وزيف الادعاء، لكنهم يجتمعون على الفخر بالانتساب إلى شرف الأصل، هم من أبناء أهلنا الطيبين البسطاء الذين لا يتخلفون أبدا عن أداء الواجب الوطنى، وتحية لهم ولكل شهيد فى تاريخ مصر.