من أبرز الأحكام الرائجة عن عبدالناصر، أنه تنكّر لثورة 1919، وأهمل تاريخ مصر والعرب، وادعى أن التاريخ يبدأ مع ثورة 23 يوليو، وأن كل ما سبق يوليو 1952 كان مجرد أحداث ثانوية ونضال وهمى لم يحقق آمال الشعب، وفى هذا السياق، اجتهد البعض فى تفسير إهمال ثورة يوليو للتاريخ الوطنى، وقالوا إنها عادة فرعونية قديمة متوارثة، حيث كان الفرعون، الحاكم يمحو آثار وإنجازات الحكام، الفراعنة الذين سبقوه، بل ويسجل عليها اسمه وينسبها إلى عصره!!
اجتهادات أخرى ادعت أن ثورة يوليو حاولت تأكيد شرعيتها من خلال إهمال الأفكار والحركات السياسية التى مهدت الطريق أمامها، والتأكيد على أنها البداية الصحيحة للوطنية المصرية وللعروبة، وبالتالى اكتساب مصدر أول أصيل للشرعية السياسية.
وأعتقد أن الاجتهادات والاتهامات السابقة غير صحيحة، بل وخالية من أى مضمون حقيقى يستطيع الصمود فى وجه النقاش الجاد، فثورة يوليو وعلى عكس ما يقال لم تهمل تاريخ الثورات التى سبقتها أو الزعماء والحركات السياسية التى مهدت الطريق أمامها، بل قدمت ثورة يوليو نفسها كإحدی حلقات النضال الطويل ضد الاستعمار والرجعية. وقد أكد جمال عبدالناصر، قائد ثورة يوليو، على هذه المعانى، وقدم رؤية واضحة تحدد علاقة ثورة يوليو بالتاريخ المصرى والعربى بتجربة سياسية ونظام حكم.
«اهتم جمال عبدالناصر، بتوضيح تكامل وتواصل مراحل كفاح الشعب المصرى عبر التاريخ فى الكثير من خطبه وأحاديثه، على أن تكامل كفاح الشعب المصرى واستمراريته لم يخل من عثرات، وإخفاقات، من هنا جاءت ثورة 23 يوليو 1952 لتحقق آمال وأهداف الشعب المصرى»، هكذا تتبلور ركيزة التكامل والتواصل فى نضال الشعب المصرى عبر أجياله وثوراته المختلفة، والذى نجح فى تحقيق أهدافه مع ثورة 23 يوليو، والملاحظ أن هذه الركيزة الأساسية فى رؤية عبدالناصر للتاريخ الوطنى المصرى تلازمه حتى وفاته فى 28 سبتمبر 1970، يعبر عنها فى جمل وعبارات وسياقات مختلفة، وفى هذا السياق نورد ما ذكره عبدالناصر فى عيد العلم عام 1965، حين قال بالحرف الواحد «إن تاريخ مصر العظيمة لم يبدأ بثورة 23 يوليو وإنما قيمة ثورة 23 يوليو الحقيقية فى أنها استطراد طبيعى لنضال الشعب المستمر وطاقاته المتجددة وآماله البعيدة».
الركيزة الثانية فى رؤية عبدالناصر للتاريخ تجسدت فى إيمانه بحق الشعب المصرى فى التقدم للحاق بركب التقدم البشرى بعد أن فرضت عليه قوى خارجية «المغول- المماليك- العثمانيون» العزلة والتخلف والضعف. وأكد عبدالناصر، أن استحقاق النهضة والتقدم يرتبط بعوامل كثيرة كان من بينها عمق وأصالة اليقظة المصرية، تلك اليقظة التى ظهرت بوادرها قبل الحملة الفرنسية إلى مصر، ثم تزامن انطلاقها مع بداية النهضة والتقدم فى اليابان، يقول عبدالناصر «ولم تكن الحملة الفرنسية على مصر مع مطلع القرن التاسع عشر هى التى صنعت اليقظة المصرية فى ذلك الوقت- كما يقول بعض المؤرخين- فإن الحملة الفرنسية حين جاءت إلى مصر وجدت الأزهر يموج بتيارات جديدة تتعدى جدرانه إلى الحياة فى مصر كلها، كما وجدت أن الشعب المصرى يرفض الاستعمار العثمانى المقنع باسم الخلافة».
والمتأمل هنا لرؤية عبدالناصر لتأثير الحملة الفرنسية على اليقظة المصرية يلحظ تطورا فى أبعاد هذه الرؤية مقارنة بما أورده فى فلسفة الثورة عندما قال «جاءت الحملة الفرنسية وتحطم الستار الحديدى الذى فرضه المغول علينا، وتدفقت علينا أفكارا جديدة.. وتفتحت لنا آفاق لم يكن لنا بها عهد. وورثت أسرة محمد على كل ظروف المماليك، وإن حاولت أن تضع عليها من الملابس ما يناسب زى القرن التاسع عشر.. وبدأ اتصالنا بأوروبا والعالم من جديد.. بدأت اليقظة الحديثة..».
لكن عبدالناصر فى الميثاق يقدم رؤية أكثر تاريخية لبدايات اليقظة المصرية الحديثة، ويوضح أنها كانت نتاجا لتفاعل عناصر داخلية تموج بها مصر مع عوامل خارجية تمثلت فى ما جاءت به الحملة الفرنسية، ومثل هذا التفاعل شكل ملامح «اليقظة الشعبية» التى مهدت لمحمد على حكم مصر وانطلاق اليقظة المصرية الحديثة التى أصيبت بالنكسة لأنه لم يؤمن بالحركة الشعبية.
وتزامنت النكسة مع تطور الاستعمار ودخوله مرحلة الاحتكارات المالية، وكانت النكسة فى مصر بابا مفتوحا لقوى السيطرة العالمية.. هكذا تعثرت اليقظة المصرية الحديثة، وتواصل كفاح الشعب المصرى لتحقيق استقلاله الوطنى وتحقيق التقدم، أى متابعة خط اليقظة والنهضة.
هكذا يعزو الميثاق انتكاسة اليقظة المصرية لأسلوب محمد على فى الحكم ومغامراته الخارجية، ومثل هذا التفسير، والذى يتضمن أحكاما تقييمية واضحة بحق محمد على، يتجاهل أولا الكثير من الحقائق التاريخية الخاصة بدور القوى الاستعمارية فى تطويق تجربة محمد على التحديثية وضربة عسكريا، كما يعتمد ثانيا على معايير معاصرة فى السياسة والحكم تنتمى إلى عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية فى الحكم على تجربة تاريخية تنتمى لعالم بدايات القرن التاسع عشر، حيث كانت النظم الفردية والإمبراطوريات العسكرية ذات التوجه الاستعمارى أمرا طبيعيا ومتسقا مع الأوضاع السياسية والاقتصادية السائدة فى أوروبا، فما بالنا بدولة كمصر كانت فى بدايات اليقظة الحديثة على نحو ما يقرر الميثاق.
ويمكن القول بأن قسوة ولا تاريخية أحكام الميثاق على تجربة محمد على ترجع بالأساس إلى الخصام التاريخى والصراع السياسى بين ثورة يوليو وأسرة محمد على، فالثورة التى قوضت الحكم الملكى الذى أسسه محمد على لم يكن من المتصور أو المقبول سياسيا وأيديولوجيا أن تقر بإيجابيات محمد على، بل وكان من غير المنطقى أيضا أن تلحظ عناصر التشابه التاريخى بين نهجها الاستقلالى وسعيها الوحدوى وبين تجربة محمد على.
إن التشابه بين تجربة محمد على وثورة يوليو صار فى الكتابات السياسية المعاصرة أمرا متفقا عليه، ولا يتسع المجال لرصد هذه القراءات، لكن المفارقة أن اهتمام الكتابات الوطنية المصرية برصد وتحليل أوجه التشابه بين تجربة محمد على والتجربة الناصرية قد نما فى أعقاب نكسة يونيو 1967، حيث ظهرت كثير من الاجتهادات التى تحلل عناصر القوة والنهوض فى التجربتين، ثم عناصر الإخفاق خاصة دور القوى الأجنبية فى ضرب التجربتين على أساس أنهما حاولتا تأسيس دولة مصرية قوية مستقلة فاعلة فى محيطها العربى، ومن ثم اصطدمتا بالقوى الكبرى المسيطرة على النظام الدولى. أما موقف عبدالناصر من سعد زغلول والمرحلة شبه الليبرالية فيحتاج إلى مقال جديد.