"سوف تظل شعوب القارة تتطلع إلينا، نحن الذين نحرس الباب الشمالى للقارة، والذين نعتبر صلتها بالعالم الخارجى كله".. بهذه الكلمات لخص الزعيم جمال عبد الناصر الدبلوماسية المصرية وما يجب أن تكون عليه سياسات مصر الخارجية فى كتابه "فلسفة الثورة"، والتى تنطلق من أسس حماية الأمن القومى المصرى المرتبط بالعالم العربى، والبعد الجغرافى المصرى والإسلامى.
السياسة الخارجية للزعيم جمال عبد الناصر، أكدت أن ثورة 1952 لم تستبدل الملكية بالجمهورية وأحدثت تغيرا جوهريا فى نظام الحكم فحسب، بل امتد هذا التغيير إلى الدبلوماسية المصرية، حيث رسم الرئيس عبد الناصر رؤية ونهج فى الداخل والخارج، مكنته خلال تلك الحقبة من إحداث انتصارات ضخمة، تخللها تجارب مريرة، وفترات إنجاز وقصور شكلت فى مجملها مرحلة تاريخية من أدق المراحل التى مرت بها مصر ليحمل عن جدارة لقب "زعيم الأمة".
الزعيم العربي
وفى مأوية ميلاد زعيم الأمة الراحل، وفى ضوء فهم كتابه "فلسفة الثورة" الذى قدمه فى السنوات الأولى لثورة يوليو 1952، بهدف شرح الإطار الفكرى والخطوط العامة لبرنامج العمل بعد رحيل الملك فاروق نجد أنه ضم 4 مبادئ، وجاءت السياسة الدولية المصرية فى البند الرابع، والتى من خلالها تمكنا من رصد سياسة مصر الخارجية فى عهده.
وقام الزعيم الراحل بوضع اللبنة الأولى فى أسس السياسة الخارجية المصرية الحديثة، وشرح مرتكزات ثلاثة فى كتابه "فلسفة الثورة"، والتى ظلت تمثل المرجع الأول لسياسة مصر الخارجية، رغم بعض المتغيرات التى طرأت عليها السنوات الأخيرة.
عبد الناصر وجيفارا
الدائرة العربية
قسم عبد الناصر السياسة الخارجية المصرية إلى دوائر ثلاثة، الأولى الدائرة العربية، ثم الدائرة الافريقية والأخيرة الدائرة الإسلامية، فى الدائرة الأولى نجد أن عبد الناصر أولى اهتمامًا بالغًا بالأمن القومى العربى، الذى رأى أن أى تهديد لأى بلد عربى يعد تهديدًا لكافة البلدان العربية.
وفى كتابه "فلسفة الثورة"، قال ناصر: "دوائر الحركة الخارجية لمصر يجب أن تبدأ بالدائرة العربية التى يربطها بمصر تاريخ مشترك ومصالح عميقة، وأن أى تهديد يوجه لدولة عربية يكون، موجها بنفس الدرجة إلى كل الدول العربية، واعتبر كتابه أن أهمية البترول العربى وما ينتظره من دور حيوى فى السياسة الدولية وما يمكن أن يوفر مصدر قوة للعرب".
عبد الناصر وياسر عرفات
الدائرة الأفريقية
أما الدائرة الثانية من دوائر مرتكزات السياسة الخارجية المصرية، تمثلت فى "القارة السمراء"، وأولى عبد الناصر الدائرة الأفريقية أهمية كبرى، باعتبار أن مصر البوابة الشمالية لإفريقيا، وقدم شرحا تفصيليا عن شكل الدبلوماسية المصرية على الخريطة الإفريقية، ويقول فى كتابه "لسوف تظل شعوب القارة تتطلع إلينا، نحن الذين نحرس الباب الشمالى للقارة، والذين نعتبر صلتها بالعالم الخارجى كله".
ليست الحكومات الإفريقية وحدها التى كانت فى طليعة اهتمام عبد الناصر، بل حمل على عاتقه أيضًا مساعدة الشعوب الإفريقية، قائلًا "ليس فقط بحكم موقعنا الجغرفى فى القارة، ولكن بحكم تطلع شعوب القارة إلى مصر، لمعاونة هذه الشعوب التى تنشد النور والحضارة فى أعماق القارة"، ودعا عبد الناصر من خلال كتابه بفكرة إنشاء معهدًا ضخمًا لأفريقيا يعمل على كشف أسرار القارة ودعم شعوبها ورفاهيتها، قائلًا "لسوف أظل أحلم باليوم الذى أجد فيه فى القاهرة معهدًا ضخما لإفريقيا، يسعى لكشف نواحى القارة أمام عيوننا ويخلق فى عقولنا وعيا أفريقيا، مستنيرا ويشارك مع كل العاملين فى كل أنحاء الأرض على تقدم شعوب القارة ورفاهيتها، وتم بناء معهدا بالفعل عام 1960".
وأقر الزعيم الراحل أن النيل شريان حياة مصر وأمنها القومى، قائلًا "أن النيل شريان الحياة لوطننا يستمد مكانه من قلب القارة.. ورأى ناصر فى السوادان "بلد شقيق وصفة بالحبيب، تمتد حدوده إلى أعماق أفريقيا، وترتبط بصلات الجوار مع المناطق الحساسة فى وسطها".
واللافت أيضًا أن عبد الناصر لم يؤسس فقط لسياسة دولية مصرية، بل حذر أيضًا من مخاطر المتربصين للأمن القومى المصرى، وحذر فى كتابه من مساعى تقسيم بلدان الجوار، قائلًا "المؤكد أن أفريقيا الآن مسرح لفوارن عجيب، مثير، وأن الرجل الأبيض الذى يمثل عدة دول أوروبية يحاول الآن إعادة تقسيم خريطتها، ولن يستطيع بحال من الأحوال أن نقف أمام الذى يجرى فى أفريقيا ونتصور أنه لا يمسنا ولا يعنينا".
زعيم الامة
الدائرة الإسلامية
وينتقل عبد الناصر بالشرح إلى الدائرة الثالثة للدبلوماسية المصرية، وهى الدائرة الإسلامية باعتبارها إحدى دوائر سياسة مصر الخارجية، آملا فى إرساء تعاون قوى بين مختلف الدول الإسلامية يساعد على توظيف إمكانياتها الهائلة لصالح شعوبها.
وعبر عن إيمانه بتقوية وتعزيز العلاقات بين البلدان الاسلامية، وقال: "لقد ازداد إيمانى بمدى الفاعلية الإيجابية التى يمكن أن تترتب على تقوية الرباط الإسلامى بين جميع المسلمين، أيام ذهبت مع البعثة المصرية إلى المملكة العربية لتقديم العزاء فى وفاة عاهلها الراحل الكبير" (الملك عبد العزيز آل سعود الذى توفى فى نوفمبر 1953).
هكذا وضع الزعيم المحنك أسس السياسة الدولية المصرية، لتحصين بلاده وثورته يوليو 52 من المتربصين بها ممن تحطمت أحلامهم الاستعمارية على يده، عبر مرتكزات ثلاثة، ربما طرأت عليها تغيرات طبيعية السنوات الماضية، إلا أنها لا تزال عصب الدبلوماسية المصرية، ويستمر العمل بها لمكانتها وعمقها على الصعيد الدولى، ونجد دوائره الثلاثة قد رسخت لفكرة أن النهوض بالأمة العربية يأتى فى المقام الأول عبر حماية الأمن القومى العربى والتفاعل الإفريقى والترابط الإسلامى.
عبد الناصر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة