كنت قد قدمت فى الجزء الأول العوامل التى أدت إلى بداية نهاية المذهب الاقتصادى الحر المطلق، وبداية تدخل الدولة فى الحياة الاقتصادية وعلاقات العمال برب العمل، وهنا أقدم الدوافع الفكرية لتدخل الدولة أكثر فى الحياة الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية بين المنتج والعامل .
فلقد استحوذت المشكلة العمالية على التفكير الاقتصادى طول القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بصورة واضحة، وقامت أكثر المذاهب الجديدة بمحاولات للحد من بؤس الطبقة العاملة وتقريب زاوية بعد الإنسانية عن خط العدالة الاجتماعية، حيث تبدى هذا الإتمام لدى المفكرين فى الدول الصناعية الكبرى فى أوروبا وأمريكا، فتباروا فى اقتراح المذاهب والحلول الكفيلة بترسيخ دعائم العدالة وتبرير فرض التدخل لتوطيدها.
وقد كان لهذه المذاهب الفكرية أثرها السحرى على الجماهير العاملة، وكانت تنتشر بينهما بواسطة الكتب والنشرات الدورية، وتزايد ذلك من الناحية الحقوقية وتراجع مبدأ استقلال الإدارة أمام الانتقادات التى وجهت إليه، وحلت محل فكرة الإنسان الفرد المستقل عن المجتمع، فكرة أخرى تعتبر المجتمع الشرط الضرورى لحياة الإنسان المادية والفكرية، والوسط الذى لولاه لما كان أى معنى لمفاهيم الحقوق والالتزام، مما يستدعى أن يكون مبدأ استقلال الإدارة غير مقبول بل ومقيد بضرورات النظام الاجتماعى، فالشروط اللاإنسانية فى عقود العمل التى تحط بكرامة الإنسان، والإرهاق الجسدى الذى كان يتعرض له الأحداث من العمل، كانت تشكل خطرا على مستقبل البشرية جمعاء، لذلك فإن استقلال الإرادة وحرية التعاقد، كان أمرا غير مقبول لأضراره الإنسانية إلى جانب الأثر المالى الظالم للعمال .
زد على ذلك مبدأ المساواة النظرية بين الإرادتين المتعاقدتين (أصحاب العمل والعمال) كانت غير متوفرة من قبل، والتكافؤ فى المواقف كان معدوماً، فرب العمل له من مركزه الاجتماعى والثقافى الواسعان، ورأس المال، ما يسمح له بأن يملى إرادته كاملة على العامل الذى كان لا يملك إلا كسبه اليومى، فيضطر للإذعان والقبول بأقصى الشروط وأشدها إجحافاً، وبعداً عن العدالة الاجتماعية والإنصاف الإنساني. وبما أن المساواة الحقوقية النظرية لا تعنى شيئاً على أرض الواقع، إذا لم ترافقها مساواة اقتصادية كاملة، فإن الواجب يحتم على الدولة أن تتدخل لتعيد التوازن بين ارادتى المتعاقدين .
وقد سجل ذلك "لاكوردير" فى نظرية أساسها "أنه فى علاقات القوى مع الضعيف، والغنى مع الفقير، والسيد مع الخادم، فإن الحرية هى التى تضطهد، والقانون هو الذى يحرر"!.
وهذه كانت بداية نضال العمال وتجاوب أرباب العمل وتدخل الدولة لإعادة التوازن بين الطرفين، وهو ما سوف نفرد له مقالا أن شاء الله .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة