لم تقتصر احتجاجات الفقراء فى إيران والتى اشعلت فتيلها مدينة مشهد آنى أكبر مدن إيران من حيث عدد السكان، يوم الخميس الماضى، ضد الفقر والغلاء المعيشى والوضع الاقتصادى المتردى وارتفاع نسبة البطالة، على شعارات مناوئة للحكومة الإيرانية، التى رفعت أسعار الوقود بنسبة تصل إلى 50%، واستبعدت أكثر من 30 مليون من الدعم النقدى، بل بدا المشهد فى الأيام التى تلت التظاهرات التى اتسعت رقعتها لتشمل كرمانشاه وتبريز الجنوبية وخراسان، أعمق بكثير من كونها احتجاجا عاديا.
تصفية حسابات سياسية
على مدار الأشهر الماضية عمل الاعلام المقرب من التيار المتشدد لاسيما المقرب من الحرس الثورى على التحريض ضد الرئيس المعتدل الذى أطاح بمنافسه الأقوى فى الانتخابات الرئاسية التى أجريت فى مايو الماضى، "إبراهيم رئيس" سادن العتبة الرضوية، المدعوم من المرشد ومؤسسة الحرس الثورى، وجائت نتائجه صادمة لكثير من قادة المعسكر المحافظ عندما حسمها روحانى فى الجولة الأولى وتمكن من الاستحواذ على أكثر من 23 مليون صوت، رغم وقوف أنصار المرشد إلى جانب خصمه، الأمر الذى أقلق التيار المتشدد المهيمن على السلطات التتشريعية والقضائية، وأنصار الولى الفقيه على شعبيتهم فى الشارع الإيرانى.
ورغم مساعى روحانى لتحقيق وعوده الانتخابية لجذب استثمارات إلى البلاد لإيجاد فرص عمل بالدخل والحد من البطالة وفى إطار مساعيه للحد من تدخلات الحرس الثورى فى القطاع الإقتصادى، حاول التيار المتشدد إفشال كبرى صفقات الرئيس مع شركة توتال فى شهر يوليه الماضى، والتى بلغت قيمتها 4.8 مليار دولار لتطوير حقل غاز بارس الجنوبى، وقد أثار العقد مع الشركة الفرنسية غضب المتشددين والحرس الثورى الإيرانى الذى هاجم روحانى بشدة، واعتبر العميد عبدالله عبد اللهى قائد مقر "خاتم الأنبياء" فى تعليقه الشهر نفسه، أن روحانى تجاهل فى هذا الاتفاق القدرات الداخلية.
كما وجه الحرس إعلامه بالهجوم على الصفقة، بدا الأمر واضحا من خلال الانتقادات اللاذعة التى وجهتها كلا من وكالة فارس التابعة للحرس الثورى، والصحف المتشددة المقربة من مؤسسة المرشد من أمثال (كيهان و جوان و وطن امروز)، وانتقدت وكالة فارس الصفقة فى تقريرها الذى نشرته فى الشهر نفسه، وقدمت 10 نقاط مبهمة حول العقد إلى وزارة النفط وقالت إنها تنتظر الرد، فضلا عن أن النواب المتشددين داخل البرلمان حاولوا عرقلة العقد بذريعة وجود أضرار بالغة فى العقد لم يتم دراستها بشكل كافى لكنهم فشلوا، ويمكن القياس أيضا على الصفقة النووية التى ابرمها روحانى فى 2015، وناهضها المعسكر المتشدد، باعتبارها لن تعود بالفائدة على الشعب وفقا لرؤية هذا التيار.
تشجيع خصوم الرئيس على الحراك الشعبى
وبمعنى آخر، فإن أحد أهداف تصاعد حدة الانتقادات ضد روحانى، هو تشجيع خصومه على الحراك الشعبى ضد آداء الحكومة السئ، رغم أن الشيخ الدبلوماسى (روحانى) حذر منذ البداية من أنه لن يكون هناك "حلول بين عشية وضحاها" لمشاكل إيران العديدة، والتى جزء كبير منها كان ارث الحكومات السابقة لاسيما حكومة الرئيس السابق أحمد نجاد الذى حكم من الفترة (2005- 2013)، والتى شهدت فيها إيران أسوء حالة اقتصادية وأعلى معدل تضخم فى تاريخها (بلغ 40%) بحسب إحصاءيات رسمية".
نائب الرئيس يقع فى الفخ
بدأت التظاهرات نهار الخميس الماضى، احتجاجا على الأوضاع الاقتصادية والفساد لكنها سرعان ما اتخذت منحى سياسى، بعد أن ردد المتظاهرون شعار"الموت لروحانى"، الشعار الذى صدم التيار الإصلاحى، وفى الوقت نفسه رفع النقاب عن تحريض يدور خلف الستار من قبل منتقدى وخصوم روحانى، لإشعال التظاهرات، الأمر الذى لوح إليه نائب الرئيس الأول اسحاق جهانجيرى الذى ينظر إليه داخل إيران على أنه الكارت الرابح الذى سيخوض به التيار الإصلاحى انتخابات 2021، واعتبر نائبه أن خصوم الحكومة يقفون وراء الاحتجاجات، وقال جهانجيرى الجمعة الماضية، "بعض الأحداث فى البلاد هذه الأيام تتخذ من المشاكل الاقتصادية ذريعة، ولكن يبدو أنها تحدث على خلفية أمور أخرى. يظنون أنهم بالقيام بذلك يضرون الحكومة، وهناك آخرون سيركبون الموجة".
روحانى يسقط فى الفخ
تصريحات جهانجيرى قد تؤثر على شعبيته التى حققها على مدار الأشهر الماضية، لاسيما خلال دوره كمرشح ظل إلى جانب روحانى فى انتخابات مايو الماضى، لكن على أى حال، تلويحاته دفعت أنصار التيار الإصلاحى إلى الوقود إلى جانب روحانى الذى يقف بين سنداد ضغوط الشارع ومطرقة المتشددين، وأطلق أنصاره على وسائل التواصل الإجتماعى هاشتاج "#روحانيتنهانيست" أى روحانى ليس وحيدا لدعمه.
فرصة للمحافظين
ركوب التيار المنافس لروحانى الموجة، أمر غير مستبعد على خلفية تصفية الحسابات السياسية، ومعركة كسر العظام التى تدور وراء الكواليس بين أجنحة السلطة، فالمسفيد الأكبر من هذه الاحتجاجات هو خصوم روحانى من التيار المحافظ، الذين يتبعون أهداف عديدة فى مقدمتها، التخطيط المبكر لانتخابات 2021 الرئاسية، واظهار الرئيس المعتدل الذى يسانده قادة وزعماء التيار الإصلاحى بأنه أخفق فى ولايته الثانية وكأن قدم عودا انتخابية لجمع الأصوات فقط، وبالتالى تفقد الجماهير الإيرانية الثقة فى المعكسر الإصلاحيين ويتم إقصاؤه عن المشهد السنوات المقبلة.
والهدف الآخر هو أن يحقق هذا التيار مكاسب سياسية فى الشارع الإيرانى أهمها استراجاع شعبيته التى فقدها فى المعارك الانتخابية السابقة أمام التيار الإصلاحى، بدءًا من انتخابات الرئاسة فى يونيو 2013 والتى هزم فيها روحانى المرشحين المتشددين، مرورا بانتخابات تشريعية ومجلس خبراء القيادة فى يناير 2016 والتى اكتسحت فيها كوادر التيار الإصلاحى والمعتدل مقاعد العاصمة طهران، وأقصت الوجوه المحافظة ورجلى الدين المتشددين محمد تقى مصباح يزدى، وآية الله محمد يزدى، وصولاً إلى انتخابات الرئاسية مايو 2017 حيث ساهم تشتت هذا التيار فى حسم المعركة لصالح روحانى بعد أن فشلت الجبهة المحافظة "جمنا" (الجبهة الشعبية لقوى الثورة) والتى ضمت تحت لواءها أحزاب وشخصيات محافظة مختلفة فى احداث تجانس وتوحيد هذا المعسكر على مرشح اصولى واحد.
وأخيرا يسعى التيار المحافظ إلى توظيف الاحتجاجات لخدمة مؤسسة المرشد الأعلى، فى رؤيته الاقتصادية التى أطلقها مارس الماضى عندما انتقد آداء فريق روحانى الاقتصادى، وأوجد بديل لبرنامجه الاقتصادى ما أسماها بخطة "الاقتصاد المقاوم" للاعتماد على الداخل للنهوض بالاقتصاد.
فى النهاية لا يمكن التنبؤ بما سيحدث فى الداخل الإيرانى فالأحداث متسارعة والسيناريوهات متعددة، لكن المؤكد أن ترضخ الحكومة لمطالب المحتجين، خاصة بعد التحام بعض رجال الدين بصفوف الجماهير، واعتراف العديد من المسئولين بمشروعية المطالب، كى لا يفوت الأوان ويدفع النظام برمته فاتورة التلكؤ، لاسيما وأن الولايات المتحدة، وخصوم طهران أبدوا دعمهم للمحتجين.