مضى ما يقرب من الشهر على رحيل أستاذى صلاح عيسى، وجدتنى غير قادر لست أدرى لماذا.. لا على حضور جنازته، ولا العزاء، ولكن حين قرأت مقالا لرفيقة عمره أمينة النقاش عن «لوعة الفقد» نقلت فيه عن نيكوس كزانتيزاكس فى وصف زوربا اليونانى: بأنه قلب نابض بالحياة، وصخرة دافئة، ونفس عظيمة بريئة على طبيعتها، لم ينقطع بعد الحبل السرى بينها وبين أمها الأرض». وفى العلاقة الفريدة التى جمعت بين «زوربا» الشيخ الأمى الذى يعيش حياته بتلقائية روح وثابة، وعفوية قلب فتى مغامر أكسبته التجارب خبرات حياتية عميقة، وبين المثقف الشاب الثرى النهم للقراءة ولا يعرف من الحياة سوى الأشكال النمطية الذهنية التى تصورها له الكتب، والذى جاء القرية يبحث عن استثمار لثروته، يسخر زوربا من صديقه المثقف وكتبه التى تتعالى على تجارب الحياة، ويسأله هل لدى كتبك إجابة عن لماذا يقتل الناس بعضهم البعض؟ لماذا يجب علينا أن نفترق؟ لماذا يموت الناس؟ فيجيبه المثقف قائلا إنما أنا أقرأ الكتب لأبحث عن إجابة لتلك الأسئلة..» فعلا عاش صلاح حياته ليعلمنا ألا نكون الشاب الثرى.
قادتنى ذكرياتى، وكيف كان صلاح المعلم الأول، رغم أنى من جيل جاء إلى المنيا للقاهرة لكى يتعرف على النضال الاجتماعى والسياسى فى زمن كانت فية الثقافة هى الصلاة لله من أجل ألا يستغل الإنسان أخيه الإنسان، كنت قد غادرت منظمة الشباب، بعد أن أدركت أن للحياة مدارس أخرى.
كان اللقاء الأول مع صلاح عيسى فى نهاية عام 1969 حينما أعطانى أحد الرفاق مجلة الحرية، وبها مقال لصلاح، تحت عنوان «تجربة ثورة 23 يوليو بين المسار والمصير»، بعدها دخل صلاح عيسى المعتقل المرة الأولى عام 1966، كان صوته هو الأول فى نقد ثورة يوليو، شاب يبلغ من العمر 25 عاما، يكتب فى سلاسة وهدوء ومنهجية مقالا كنا نتداوله فى صمت وحذر، حينذاك لم يكن لدينا ماكينات تصوير، وكان المقال مكتوب مرة أخرى بخط يد الزميل الغائب فارس فوزى رحمة الله عليه، لم أكن قد قرأت إلا «البيان الشيوعى»، ورواية «الام» لمكسيم جوركى، إلا أن كتابات صلاح عيسى جعلتنى دائما أعتبره هافل وفلاسوف الشاب الذى بدأ بالتخطيط لإنقاذ العمال بعد أن تعرفا على ساشا.
«كانت أمينة النقاش بالنسبة لى هى ساشا»، التى تأتى من المدينة لتحمل أخبار الثورة فى المدن وتدير الثورة فى القرية، وظللت أحلم باللقاء حتى التقينا فى حفل بجامعة القاهرة 1972، تقابلت مع قادة كبار كثيرين، ولكن هذا الشاب النحيل الذى تطل من بين عينية كل آفاق العالم الجديد لم أنبهر حتى اليوم بأحد غيره، وارتبط به وكنت أزوره فيما بعد بمكتب له بشارع الجمهورية وسط القاهرة. كنت أجلس وأستمع إليه، وأتأمل كتاباته فى وعى، ونمت العلاقة أكثر فأكثر بعد انتفاضة يناير 1977 وكان بعد أن أفرج عنه وقبل الجميع مؤسس للجنة الحريات فى التجمع مع أمينة النقاش زوجته ورفيقة عمره وعظيمة الحسينى ومحمود حامد وأنا وآخرين، كانت الفكرة موجودة ولكنها نمت وترعرعت قبل إنشاء منظمات حقوق الإنسان.
وفى 1979 صدر له أول كتبه عن «الثورة العرابية» ذلك الذى وصفه الراحل رفعت السعيد بأن صلاح عيسى: «فخر مورخى جيلنا»، وتلاه عشرين كتابا آخر، ولكن يظل هذا الكتاب نقطة تحول لإدراك أجيال كثيرة للثورة المصرية وأحمد عرابى ولازال صالحا حتى الآن لأجيال جديدة لا تعرف معنى العسكرية المصرية.
وبعد أن عدت من موسكو كان صلاح فى ذروة مجده الصحفى، وبجواره جيلا كاملا عرف الصحافة من خلاله، وأفخر أن صلاح كان وراء تعيينى فى الأهالى بعد حوار مع الراحل محمود المراغى، وعن علاقة صلاح بالأهالى يحتاج الأمر إلى كتاب يصدر عن طريق أمينة النقاش ونكتب فيه جميعا تلاميذه، أذكر من الأمور المضحكة أنه كان يكتب خلف مكتبه «كوز المحبة اتخرم ادينى بنطة لحام» وكان الراحل الكريم محمد سيد أحمد يسأله عن معنى ذلك؟ فيرد صلاح: «خليك فى حالك يا خواجة».
من صلاح تعلمنا القراءة والكتابة والضحك والسهر والسخرية وعشق الحياة، حتى حينما تحول إلى رئاسة تحرير «القاهرة» الحكومية، زرته فى مكتبه وكان يكتب خلفه «جئت إلى الدنيا لكى أعترض». لمكسيم جوركى، وبعد أن صار الأمين العام للمجلس الأعلى للصحافة، التقيته وسألنى عن بعض أبناء المنيا الذين كانوا يعملون فى الأهالى، وانصرفت وأنا أعتقد أن صلاح ليس صحفيا ولا سياسيا ولا باحثا بل حجر كريم كلما ألقى عليه ضوء عكس شعاعا مختلفا.
هذا هو صلاح عيسى الذى علمنى أن أكون إنسانا لكى أقرأ أو أكتب أو أعيش أن أحترم الحياة وأرغب فى تغييرها دون أن ترانى الحياة أبحث عن مصلحة من حاكم أو محكوم.
كل ذلك وعم صلاح حتى الآن لم يأخذ حقه لأنه ابن عظيم لحركة سياسية أصبحت ضعيفة، ورجل دولة معارض فى غير زمنه.