السؤال الأبرز حاليًا، الذى يتردد على ألسنة العامة قبل النخبة، هو ماذا يحدث حولنا؟، والمقصود بذلك هو ما يحدث حول وبداخل المنطقة العربية، التى لا تزال تواجه معضلات كثيرة، دون أن تقدر على البقاء صامدة أمامها، وزاد على ذلك دخول الخلافات الداخلية كطرف أصيل فى أزمات منطقتنا العربية، وهو أمر مرتبط برغبة دول وأنظمة بعينها على أن يكون لها امتدادات إقليمية، أو بمعنى أدق، ارتضت أن تكون اليد التى تستخدم من الخارج لتفتيت العرب.
إذا كنا نريد البحث عن إجابة لسؤال ماذا يحدث حولنا، فعلينا أن نؤكد بداية أن ما يحدث مرتبط فى مجمله بالتطورات الدولية، فهناك تغيير عميق يجرى فى قمة النظام الدولى، فعلى سبيل المثال، نرى تفككًا لنظام القطب الأمريكى الأوحد لصالح عالم متعدد لم تتشكل توازناته بعد، وإن كانت هناك إشارات تأتينا من أوروبا تقول بأن ألمانيا تعد نفسها لتكون زعيمة للاتحاد الأوروبى، وبالتالى يكون لها وضعية دولية تنافس من خلالها القدرات الأمريكية، بالإضافة إلى البروز الجديد من جانب روسيا، والهيمنة الصينية الجديدة، فضلًا عن بروز دول أخرى، وإن كانت تتحرك حتى الآن فى نطاق ضيق، لكنها تطمح فى توسيع نشاطها ودورها المستقبلى، وهو ما ينطبق على الهند والبرازيل واليابان، والشاهد فى كل ذلك أن هذا التنافس الذى بدأ يفرض نفسه على قمة النظام الدولى له انعكاساته المتعددة على المنطقة العربية.
أهم انعكاس لذلك أن كل دولة من هذه الدول تحاول أن يكون لها موطئ قدم فى المنطقة الأهم، ربما على مستوى العالم ككل، لأسباب سياسية وجغرافية واقتصادية أيضًا، فرغم بروز بعض الاهتمامات الغربية والصينية بالقارة الأفريقية، إلا أن المنطقة العربية تظل الأكثر استحواذًا على الاهتمام الخارجى، لأسباب كثيرة، وهو ما يظهر من خلال الاهتمام الدولى المتصاعد بكل ما تعانيه المنطقة من أزمات وخلافات وتشققات داخلية، ولعل ما حدث فى أعقاب ما سمى بالربيع العربى فى 2011 يؤكد ذلك، بل إن هذه الأحداث ربما اُستغلت من جانب قوى بازغة لكى يكون لها صوت مسموع فى المجتمع الدولى، أو إعادة تموضع نفسها، ولا يخفى علينا ما قامت به روسيا فى سوريا، التى كانت نقطة العودة الرئيسية للدب الروسى إلى الصدارة الدولية فى مواجهة الهيمنة الأمريكية، فلولا الأوضاع المتأزمة فى سوريا، ما استطاعت روسيا أن يكون لها الوجود الدولى الفاعل فى التحركات الدولية، ولما استطاعت أن تقف كالند مرة أخرى فى مواجهة الولايات المتحدة، بعد سنوات عجاف، شهدت الموت البطى للاتحاد الروسى، الذى كان ملء السمع والبصر لعقود ممتدة، قبل أن تقضى عليه ما سميت بالحرب الباردة، منتجة دويلات صغيرة، صمدت من بينها روسيا مجاهدة ومحاربة كل الظروف، إلى أن ظهر فيلاديمير بوتين ليضع خطة انطلاق طويلة الأمد للدب الروسى، بدأت نتائجها تظهر على السطح، لكنها اتخذت من الشرق الأوسط الانطلاقة الكبرى.
التغيير العميق فى قمة النظام الدولى تزامن أيضًا مع معاناة الغرب من أزمة عميقة لها أبعاد اقتصادية واجتماعية وسياسية أيضًا، أدت إلى ظهور حالة واضحة من التململ لدى قطاعات شعبية واسعة تنتمى إلى الطبقة الوسطى وصعود متسارع للتيارات الشعبوية، أثبتت حضورًا قويًا على سبيل المثال فى نتائج الانتخابات الأخيرة، التى شهدتها الولايات المتحدة وانتخاب دونالد ترامب، وفوزه على الديمقراطية هيلارى كلينتون، وأيضًا الانتخابات، التى شهدتها دول أوروبية أخرى، وحتى استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، كل ذلك جاء فى إطار ما يسمى بسيطرة النزعة الشعبوية على الغرب، الذى بات معرضًا لمخاطر عدة، أهمها أن وحدته باتت على حافة الهاوية، خاصة أن الشعبويين نفضوا أيديهم عن أية التزامات سابقة، وبدأوا فى التفكير بطريقة جديدة لا يمكن توقع نتائجها، وهو ما انعكس أيضًا على منطقتنا، كما حدث مؤخرًا فى قرار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لدولة إسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية فى إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، فهذا القرار جاء مخالفًا لكل الالتزامات الأمريكية السابقة باعتبارها الدولة الراعية لمفاوضات السلام فى المنطقة، منذ مفاوضات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل فى نهاية السبعينيات وحتى أسابيع قليلة، حينما اتخذ ترامب قراره، الذى غير من شكل الحضور الأمريكى فى القضية الأكبر، وهى القضية الفلسطينية.
المتابع الدقيق لكل ما يحدث سيجد نفسه أمام استنتاج واضح يقوم على أن سيطرة الشعبوية على عواصم غربية مهمة، كانت له أثار شديدة التأثير على المنطقة العربية، خاصة فى ظل النظرة الغربية للمنطقة وللعرب بأنهم يمثلون أكبر تهديد لأمن أوروبا والولايات المتحدة، فالعرب من وجهة نظرهم هم المصدر الأساسى والرئيسى للإرهاب والتطرف، واستدعى ذلك من أوروبا على سبيل المثال أن تشدد من إجراءاتها ضد العرب والمسلمين، وظهرت ما سميت بالإسلاموفوبيا، ورأينا دولا أوروبية تعترض بشدة على اتجاه ألمانيا لاستقبال لاجئين ومهاجرين عرب، كما لجأ ترامب إلى إصدار قرارات تمنع مواطنى دول عربية معينة من دخول الولايات المتحدة، لحماية المجتمع الأمريكى، مما أسماه بالتطرف الإسلامى.