بعيدا عن صخب العاصمة، وعنتريات تواصل أبطال «الفيس الوهميين»، عشت أسبوعا كاملا ما بين المنيا وأسيوط، فور سماعى نبأ رحيل والدة الناشط السياسى والاجتماعى المهندس جون بشرى، ذهبت إلى المنيا لتلقى العزاء بجوار ذلك القائد الشاب، فوجئت بأن سرادق العزاء بجوار مسجد الجهاد بأرض سلطان، سألت جون: «هل استأذنت؟».
أجاب فى ابتسامة رغم الحزن: «حينما توفيت والدتى فوجئت أن فضيلة إمام المسجد الشيخ أشرف قد أذاع الخبر فور سماعه النبأ على المصلين بعد صلاة الصبح، بما فى ذلك مكان الصلاة بكنيسة الأنبا أنطونيوس، وحينما ذهبت لشكرة رفض فى احترام وسألنى هل احتاج أى شىء من المسجد؟ ميكروفونات أو قاعات أو...؟ شكرت الشيخ أشرف فى احترام ووئام لتلك النخوة العظيمة».
فوجئت بأن أكثر من إمام جاء إلى الجنازة ووعظ شأن كهنة كثيرين، طوال أيام الجنازة الثلاثة شعرت أننى فى المنيا التى لا يعرفها كثيرون، ضباط الشرطة كانوا يتوافدون فور الانتهاء من خدماتهم، ثلاثة أيام رأيت فيها أغلب نواب المحافظة وقادتها وأغنيائها وفقرائها، مسلمين ومسيحيين، نساء ورجال، شباب وشابات، يتلقون العزاء مع جون وكأن من رحلت أمهم، ثلاثة أيام كانت كل الأطياف السياسية والاجتماعية تجلس وتتحاور وتحب وتعطى فى هدوء وسلام.
كثيرون يكتبون عن المنيا «إمارة الإرهاب»، ويعرفونها فقط بمكان الأزمات الطائفية، نشأت وترعرعت فيها، ومازالت فى القلب والعينين، منياوى وأفتخر، رغم أنها مدينة المتناقضات، إن سرت على الكورنيش كأنك فى الإسكندرية، ولو تجولت فى أحياء أرض سلطان وشلبى والمنيا الجديدة، تشعر أنك فى مصر الجديدة وجاردن سيتى، وإن سهرت فى فنادقها كأنك فى الزمالك، وفى كافيهاتها تشعر أنك فى بيروت، ولكن إذا زرت بعض القرى والنجوع والعزب التى تشتعل بالأحداث تعتقد أنك فى كابول!!
ثلاثة أيام كنت فى المنيا التى لا يعرفها كثيرون، كعادة سرادقات العزاء كانت السياسة تتداول على ألسنة الحضور، أحزاب مختلفة، ورجالات من أيديولوجيات متناقضة، إلا أنهم جميعا كانوا ينحازون لمصر، سمعت عن المؤتمرات التى عقدت من أجل دعم المرشح الرئاسى عبدالفتاح السيسى، وكيف كان الشباب يتناقلون الخبر ما بين مؤيد ومعارض.. ولكنهم كانوا يتحدثون والحلم يفيض من بين عيون النيل ويعلو حول الجبل ويطل على المستقبل.
فى اليوم الثالث تركت المنيا نحو أسيوط بدعوة كريمة من السيدة هند جوزيف لحضور صالون القوصية الثقافى، فى أسيوط لاحظت أن معظم الشباب يتحدثون عن مؤتمر دعم الرئيس السيسى، وفى اليوم الثانى كنت فى الصالون بالقوصية، فى وسط حضور نخبة من مختلف الأعمار والأجيال، فى تنوع ما بين مثقفين ورجال أعمال وموظفين ومزارعين ومهنيين وسياسيين وصحفيين، شيوخ وقساوسة، مسيحيين ومسلمين، شباب وشابات، هكذا اتسع ديوان الخواجة جوزيف بما ضاق به صدر الوطن، ووسط مودة وقيم نبيلة اتفق واختلف الحضور على بعض سياقات العملية الانتخابية، ولكنهم اتفقوا حول مصر، وحول المرشح عبدالفتاح السيسى، من قلب اللقاء أدركت أن تقدما كبيرا قد طال عقل الصالون طوال سنوات مضت، استطاعت أن تجمع فى الصالون بين حكمة الشيوخ وحماسة الشباب، فى سياقات من آداب الحوار ما أحوج سكان المحروسة إليها.
لاحظت أن الجميع ينظرون إلى المستقبل من خلال أدوات وفاعليات تهدف بالأساس إلى الدفاع عن القوات المسلحة والدستور والشعب، وعدم المساس بروح الأمة، وإن كان هناك من يختلفون حول بعض السياقات إلا أنهم لا يختلفون حول دعم مسيرة السيسى فى المرحلة القادمة من أجل مصر وطنا مدنيا ديمقراطيا ودستوريا، هكذا مضت أربع ساعات امتدت من تأسيس محمد على باشا للجيش المصرى وحتى 30 يونيو 2013، وكيف أن استهداف مصر الحقيقى يبدأ من الجيش ويمتد إلى حياتة الدستورية، وكيف كافح المصريون فى ثورة 1919 حتى حصلوا على تصريح 28 فبراير ودستور 1923، وامتد الحوار ليشمل كفاح الشعب المصرى بقيادة حزب الوفد من 1930 وحتى 1935، من أجل إسقاط دستور إسماعيل صدقى باشا، وإعادة دستور 1923، ومن جيل إلى جيل كانت معارك مصر أغلبها ينصب دفاعا عن القوات المسلحة من أحمد عرابى وحتى ناصر، وصولا للسيسى، وكذلك دفاعا عن الدساتير المصرية من دستور إلى آخر، وتلك هى مصر المدنية التى تعيش على النيل والمؤسسات الدينية «الكنيسة والأزهر» والشعب والقوات المسلحة، كفاح شعبنا الذى كان دائما يواجه بتدخلات خارجية، لقد سبب انتصار الجيش المصرى فى كل تلك المعارك العظيمة إلى تدخل الدول الأوربية التى سرعان ما عقدت معاهدة «لندره»، بين إنجلترا وروسيا والنمسا وبروسيا وتركيا فى 15 يوليو سنة 1840، وكانت هذه المعاهدة سببا فى بدء دسائس سببت إخلاء الجيش المصرى لسوريا فى ديسمبر سنة 1840.
ولم ينس الحضور مقولات مستشار الأمن القومى الأمريكى الأسبق 1980 حول ضرورة إنهاء ثلاثة جيوش فى المنطقة وهى (العراقى والسورى والمصرى) وكيف استطاعوا الإجهاز على الجيش العراقى وإنهاك السورى ولكن الجيش المصرى ما زال يقاوم ويبقى فى مواجهة كل محاولات الوقيعة بينة وبين الشعب.
هكذا عدت إلى المحروسة محملا بكل فروسية الصعايدة من المنيا إلى القوصية، مدركا بأن مصر لن تهزم بإذن الله.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة