مسألة الإصلاح الاقتصادى لا ترتبط بفقر الدول أو بغناها، لكنها ترتبط بتصحيح الأوضاع الهيكلية لهذه الدول، أيًا كان الثمن حفاظًا على فاعلية الأداء الاقتصادى الآن وفى المستقبل، لذلك أدعو جميع المصريين الذين يعانون جراء الإصلاحات الهيكلية الحتمية التى خاضتها مصر، أن يتأملوا كذلك تطبيق نفس هذا النهج الإصلاحى فى بلدان أغنى وأعظم موارد فى الخليج العربى داخل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
البلدان الشقيقان يتمتعان بقيادة ذات رؤية مستقبلية، رؤية تبحر بهذه البلدان الطيبة إلى مرحلة ما بعد النفط، فالمستقبل لن يتأسس على موارد وثروات قد تنضب يومًا ما، المستقبل يجب أن يتأسس على العمل والإنتاج وهيكلة البنية الاقتصادية بآليات تعتمد إعادة رسم دور الدولة فى المنظومة الاقتصادية، وفى إطار هذه الرؤية كانت المفاجأة، أمس الأول، حين دخلت ضريبة القيمة المضافة فى دائرة التفعيل فى السعودية والإمارات، وهو إجراء غير مسبوق فى تاريخ البلدين، بل وغير مسبوق فى تاريخ بلدان الخليج العربى، إذ لم تكن الضرائب ضمن الثقافة الاقتصادية والمالية فى بلدان الخليج لعقود طويلة.
هذا إجراء صحيح تمامًا فى تقديرى، ويتماشى مع الرؤية الاقتصادية المستقبلية فى البلدين، ويضمن تصحيحًا هائلا فى الأداء الاقتصادى للبلدين الشقيقين.
ومن ناحية أخرى، يمثل هذا القرار درسًا مهمًا لنا هنا فى مصر، إذ سبقت الإدارة المصرية بعمليات التصحيح الهيكلى فى بنية الاقتصاد المصرى لوقف نزيف عجز الموازنة، والعمل على بناء اقتصاد يعتمد على العمل والإنتاج وسداد حقوق الدولة الضائعة، الدرس هنا لكل المصريين بأن الإصلاح الاقتصادى أمر حتمى لا مفر منه، ولا بديل عنه، وأن البلدان الأعظم موارد والأقل فى عدد السكان تلجأ الآن لهذا الإصلاح حماية لثرواتها، وتأهيلا لشعوبها على تحديات المستقبل.
أرجو أن تنتبه أيضًا إلى أن الأمر لم يقف عند هذا الحد فى المملكة العربية السعودية، إذ تزامن قرار تطبيق ضريبة القيمة المضافة مع قرار آخر بالغ الأهمية وعميق الدلالة، حيث رفعت السعودية أسعار البنزين بنسبة تصل إلى 127 فى المائة دفعة واحدة، هل تتصور معى فرق السعر؟ أكرر «%127» فى بلد ينعم بثروات نفطية كبيرة، لكنه يريد لهذا النفط أن يتحول من الاستهلاك للإنتاج، وتريد الدولة برؤية واثقة أن تدير ظهرها للاقتصاد الريعى وتبدأ عصر الاقتصاد الإنتاجى، يشارك فيها المواطنون جميعًا.
البلدان يرغبان فى تقليص عجز الموازنة السنوى وهو عجز يتراكم تحت تأثير متغيرات داخلية وإقليمية لا تخفى على أحد، كما يتأثر بأسعار النفط صعودا وهبوطا، ويتوقع خبراء فى الخليج، بحسب ما قرأته فى الصحف السعودية، أن تتمكن حكومتا السعودية والإمارات من جمع ما يصل إلى 21 مليار دولار هذه السنة وحدها نتيجة هذه الإصلاحات وهو رقم يخفف من الاستنزاف المستمر فى موازنة الدولتين.
نحن أمام واقع جديد فى العالم العربى، أرجوك أن تنتبه إلى ذلك أوجزه هنا فى نقاط:
1 - مصر كانت على حق فى سباقها نحو الإصلاح الاقتصادى الهيكلى، وكانت قرارات مصر الشجاعة فى هذا الصدد عنوانًا لتغيير حقيقى فى بنيتنا الاقتصادية، ونقطة انطلاق مهمة للمستقبل.
2 - الإصلاح الاقتصادى ليس مقصورًا على الدولة الأكثر عوزا، لكن الأغنياء أيضا يحتاجون هذا الإصلاح وبحسم، نظرًا للتحديات الاقتصادية فى المنطقة والعالم.
3 - قرار رفع الدعم عن الطاقة وزيادة أسعار البنزين فى مصر كان قرارًا صحيحًا، والدليل هذه الزيادة الكبيرة التى شهدتها الدولة النفطية الكبرى.
4 - الواقع يقول: إن الدول الغنية تخطط لمستقبلها بطريقة مختلفة، وأن شعوب الخليج صارت «دافعة للضرائب» للمرة الأولى فى التاريخ، وإذ نتمنى لأشقائنا كل النجاح والتقدم والرفاهية دائما، فإننا فى الوقت نفسه ندعو الشعوب الأكثر احتياجا فى العالم العربى لأن تنتبه إلى أن مرحلة ما بعد النفط لم تعد مجرد توقعات نظرية فى دراسات استراتيجية، لكنها صارت واقعا ماثلا أمام أعيننا اليوم، ومن ثم فإن تركيبة المساعدات فى العالم العربى قد تتغير، وما كان الخليج قادرًا عليه فى الماضى طوعا، قد لا يكون باستطاعته أن يبادر إليه فى المستقبل، وهذا حق له حماية لنفسه وبلدانه وشعوبه، ومن ثم فليس من الحكمة أن تبنى أى دولة رؤيتها الاقتصادية على أى نوع من المساعدات أو المعونات الخليجية.
أسأل الله أن يوفق السعودية والإمارات لإنجاز الإصلاح الاقتصادى لمصالحهما العليا ومصلحة الشعبين الحبيبين، وأسأل الله أن يلهم الشعب المصرى الصبر والحكمة وتجديد الثقة فى المشوار الذى قطعناه مبكرًا منذ قرارات نوفمبر الاقتصادية وحتى اليوم.
الحمد لله..
مصر من وراء القصد
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة