يولد الشاعر شاعرا، تختبئ النبوءة بين جفنيه وعلى جناح قصيدته، اختباء مُحكما ومخاتلا، لا يفضح ولا يبدّد تماما، بما يكشف عن الجوهرى، ويفرز الحقيقى من المصطنع، والثمين من الغث، والمشروع الواعى من قبض الهواء و"الرمية دون رامٍ".
من المواهب المتفجرة التى لن تعدم الدليل على اختلافها ورائحتها الزكية الذكية، الشاعر الشاب محمد البشبيشى، الذى يحتفل بإصدار ديوانه الأول "كبرنا بنكره التفاح" عن دار عابر للنشر والتوزيع، تزامنا مع انطلاق فعاليات معرض القاهرة الدولى للكتاب أواخر يناير الجارى، فى انطلاقة ملفتة لمشروع جدير بالاحتفاء.
محمد البشبيشى واحد من الأصوات الجادة التى يعرفها المهتمون بنهر العامية الجارف، وأصواتها المتنوعة والمدهشة، ورغم أنه يخطو خطوته الأولى الموثقة فى هذا العالم، فإن له رصيدا مبهجا لدى كثيرين من متابعى شعر العامية والمهتمين به، وبينما يحتفل بعامه الحادى والعشرين وديوانه الأول، يُبشّر فى عطيّته الأولى بصوت خاص ومميز، ومُوسَّس على وعى ومعرفة وحساسية جمالية مغايرة لكثير من المطروح فى عطايا العامية المصرية.
"البشبيشى" الابن الأكبر للشاعر البارز إيهاب البشبيشى، وبينما يشغل الأب حيزا بارزا فى خريطة الشعرية المصرية والعربية كأحد الأصوات المهمة فى قصيدة الفصحى الموزونة، بوجهيها التفعيلى والعمودى، يكتب الابن قصيدة العامية، انحيازا جماليا وثقافيا واجتماعيا، ولا يستند إلى حضور الأب واسمه، وربما لهذا اختار إطلاق تجربته الأولى عبر دار نشر خاصة، وليس من خلال إحدى الجهات والسلاسل الرسمية.
يُقسم محمد البشبيشى مجموعته الأولى إلى قسمين يضمان ثلاثة وعشرين نصا متفاوتة الطول، الأول يضم اثنى عشر نصا معنونة بـ"القضمة" بترتيب وتصاعد رقمى، والثانى يضم أحد عشر نصا معنونة بـ"القبلة" بالترتيب والترقيم أيضا، ويبدأ الديوان بقائمة متتابعة من التصديرات، عبر مقطعين نثريين يمزجان بين السرد والحوار، واقتباس من أمل دنقل "أحيانا يصبح الشعر عندى بديلا عن الانتحار"، واستشهاد بالآية 10 من سورة الجن "وأنّا لا ندري أشرّ أُريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رَشَدا"، ويختتم الديوان عقب النصوص الثلاثة والعشرين بثلاثة مقاطع قصيرة معنونة بـ"نحيب"، لا تختلف جماليا عن بنية المجموعة ونصوصها، ولكنها أكثر تكثيفا ورهانا على دهشة المفارقة.
فى ديوانه الأول "كبرنا بنكره التفاح"، يراهن محمد البشبيشى على طاقة التفاصيل البسيطة والمشاهد العابرة، وعلى قوتها الكامنة وقدرتها على تفجير الشعرية دون ادعاء أو معاظلات، صانعا مفارقات لغوية ومشهدية من التفاصيل اليومية العادية، عبر أنسنة مفردات الحياة والواقع، وصنع دراما حيّة يتفاعل فيها البشر مع الشجر والحجر والجماد والسماء والحيوان وأصابع البيانو ودرجات السلالم.
تعتمد مجموعة "كبرنا بنكره التفاح" مستوى من الهدوء والبُعد عن الصخب الجمالى، لغويا وتشكيليا، إذ لا يبدو أن "البشبيشى" يشغل نفسه بمراكمة المجاز وصنع أخيلة وصور وفق العلاقات والأطر التقليدية، من بوابة المجاز والتشبيه وبلاغة التضايف البسيط، فيحتفى بدرجة كبيرة بالمشهدية والتنامى السردى والحوارى، ولكنه فى الوقت نفسه لا يتحلل تماما من مفاتيح وجماليات القصيدة العامية المستقرة، التى تحترم طابعها الشفاهى وتُسبغ عليها قدرتها التطريبية.
رغم الرهان التطريبى لـ"كبرنا بنكره التفاح"، تحلل الديوان من الالتزام المُحكم بالإيقاعات العروضية، دار حولها أو اهتزّ، أو تجاهلها فى مناطق عدّة، لصالح صنع جملة أكثر تماسكا وعضوية، أو اقتناص مفارقة مُحكمة وعارية من التكئات وأدوات الوصل وحروف الجر، بينما يتجلّى فى ثنايا النصوص غرام خفى بمشروعات بارزة فى قصيدة النثر الفصيحة، إذ يمكن ملاحظة قدر من التشاكل بين هدوء عماد أبو صالح، أو مفارقات رياض الصالح الحسين، وقصائد "كبرنا بنكره التفاح"، التى تقبض على هذا النزوع الهادئ، وفى الوقت نفسه تتفنّن فى الرقص وتفجير الموسيقى والتطريب.. ومن أجواء الديوان:
فى الليل
وشك بيشبه لـ"وش القهوة" فى الفنجان
من غير ملامح
كل همك إزّاى هتضحك
إذا حسّوا الوجع جواك
عينك الثابتة على أنفاس أبوك
رعبك مع كل تنهيدة
إن ده آخر نفس
خلاك تعاتب ربنا جهرا
بتقول:
"صحيح أعمى
لكن بشوف الروح"
*****
كنا فى نوفمبر
وكان ساعتها طويل
والشتا داخل بوشه المكشّر
ودمه التقيل
والبرد فارد سطوته ع الورد
كل أمّا الريح تميّل.. يميل
هنا عيد ميلاد النقص
وحاجات كتير وحشة ما نوعلهاش
وحنين لحاجات ما نعرفهاش
مشهد إباحى
لطفل بيعدّى الطريق من غير أبوه
لو تسألوه نفسه يطلع إيه
هيقول فى سرّه
تشبيكة إيد ما بتتفكّش.
محمد البشبيشى
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة