الكل الآن متفق على شىء واحد فيما يحدث الآن فى إيران، وهو أن التدخل الأمريكى الواضح والصريح عبر التصريحات المتكررة للرئيس دونالد ترامب، منح نظام الملالى قبلة الحياة، لأنه أضر بمطالب الشعب الثائر أكثر مما تفيده، خاصة أنه على أرض الواقع هناك عقيدة تربى عليها كثير من الإيرانيين طيلة السنوات الماضية بأن أمريكا هى العدو، ولم تتغير هذه العقيدة رغم التقارب الذى ظهر بين طهران وواشنطن فى أعقاب التوقيع على الاتفاق النووى، لأن الألة الإعلامية الحكومية لاتزال هى المسيطرة، وتوجه الرأى العام كما يشاء الحرس الثورى، وملالى قم.
ترامب ظهر فى شكل المتعجل بسقوط النظام الإيرانى فأطلق تصريحاته النارية الداعمة للشعب الثائر، والمنتقدة لديكتاتورية نظام الحكم، ولم يكتف بتصريحاته، وإنما طلب من سفيرته فى الأمم المتحدة نيكى هايلى أن تطلب عقد «اجتماعين طارئين لمجلس الأمن فى نيويورك ومجلس حقوق الإنسان فى جنيف» لبحث التطورات فى إيران و«الحرية» التى يطالب بها الشعب الإيرانى، وقالت هايلى «علينا ألا نبقى صامتين.. إن الشعب الإيرانى يطالب بحريته».
ويبدو أن هذا هو الشعار الذى اختارته واشنطن لمواجهة الملالى، لكن السؤال الآن، هل اختارت واشنطن التوقيت السليم أم أنها تسرعت، بالتأكيد كل المؤشرات تقول إنها تسرعت، لأن تصريحاتها وتحركاتها كانت لها تأثيرات سلبية، وأحسن النظام الإيرانى استغلالها فى ضرب الثوار، باعتبارهم عملاء لواشنطن كما روج النظام، وهى التهمة جاهزة التعليب فى إيران منذ أن سيطر الملالى على الحكم فى نهاية السبعينيات، مستغلين الحصار الإعلامى والتكنولوجى فى توجيه دفة الرأى العام إلى الاتجاه الذى يرونه يصب فى صالحهم.
ترامب لم يكن الوحيد الذى أخطأ بتسرعه فى إعلان دعمه لثورة الشعب الإيرانى وانتفاضته ضد الحكومة والنظام، فهناك دول اختارت أن تحمى مصالحها مع إيران وجعلتها الأولوية، ومنها بطبيعة الحال فرنسا، التى كانت أكثر المستفيدين من توقيع الاتفاق النووى، وقد تابعنا جميعاً الاتصال الهاتفى الذى جمع الثلاثاء الماضى، الرئيس الإيرانى حسن روحانى، ونظيره الفرنسى إيمانويل ماكرون، الذى طلب فيه روحانى من فرنسا التحرك ضد مجموعات إيرانية «إرهابية» معارضة اتهمها بإثارة الاضطرابات الأخيرة.
وقال رئيس إيران وفقاً لما نقله عنه التليفزيون الإيرانى الرسمى «ننتقد وجود مجموعة إرهابية فى فرنسا تتحرك ضد الشعب الإيرانى.. وننتظر تحركا من الحكومة الفرنسية ضد هذه المجموعة الإرهابية»، فى إشارة إلى «المجلس الوطنى للمقاومة الإيرانية» الذى يشكل مجاهدو خلق مكونه الرئيسى، ويتخذون من باريس مقراً لهم ولتحركاتهم، وتتهمهم السلطات الإيرانية بتأجيج أعمال عنف، فقبل أيام اتهم مساعد القائد العام للحرس الثورى العميد رسول سنائى راد حركة مجاهدى خلق ومجموعات مؤيدة لعودة الملكية متمركزة فى الخارج بـ«الوقوف خلف هذه الأحداث» التى تشهده المدن الإيرانية، وقال إن «المنافقين كلفوا من آل سعود وبعض الدول الأوروبية زعزعة الاستقرار فى البلاد».
أغلب الظن أن فرنسا ستقرر الوقوف على الحياد، خوفاً من أى ردة فعل عالمية غاضبة أذا ما أقدمت على أى خطوة من شأنها تقييد حرية المعارضة الإيرانية، لكنها فى نفس الوقت تريد الحفاظ على خط العلاقة المستقيم الذى يربطها بالنظام الإيرانى، لذلك فهى تقف الآن فى المنتصف، لكن وقوفها فى هذه المنطقة يضاف إلى رصيد نظام روحانى، لأن فرنسا دولة قوية وتملك الكثير من الأدوار التى تستطيع القيام بها لخدمة المنتفضين فى إيران فى وجه الديكتاتورية الدينية الحاكمة، لكن باريس قررت أن تقف فى المنطقة الرمادية حفاظا على مصالحها.
ما بين التسرع والخوف على المصالح، يمكن القول إن فرصاً كثيرة تاهت من بين كل من لديه أمل فى نجاح تحركات الإيرانيين، فالنظام يرتكب كل الموبقات فى حق شعبه، ولم يتوانَ فى مواجه المطالبين بالحرية بالرصاص، وآخر ما قام به النظام فرض قيود على خدمتى التواصل الاجتماعى انستجرام وتليجرام، حتى يفقد المواطنين ميزة التواصل بينهم، وكل مؤشرات على أن الحركة الشعبية فى طريقها لتحقيق نجاح لكن حجم هذا النجاح غير واضح حتى الآن، ومن الأفضل أن ننتظر ولا نتسرع فى الحكم حتى يختار الشعب الإيرانى الطريق المناسب له، وإلا نصادر على حقه، وألا نكون عبئا عليه، لأن النظام فى إيران كما سبق وقلت لديه خبرة فى التعامل مع هذه الاحتجاجات، وقمعها إما بالقتل أو بترويج شائعات مثل التى يرددها حالياً بأن الثوار هم عملاء للخارج.