ولد جمال عبدالناصر فى الإسكندرية فى 15 يناير 1918، وتوفى فى 28 سبتمبر 1970، عاش 52 سنة فقط.. ومع ذلك يتردد اسمه وأعماله فى كل نقاش عن حاضر ومستقبل مصر، وهى ظاهرة سلبية لأن الرجل رحل عن عالمنا منذ 47 عامًا، لكن أنصار عبدالناصر وخصومه يوظفون اسمه بشكل سياسى ودعائى فى الجدل العام، من دون إدراك أن الرجل وأعماله صارت جزءت من تاريخ مصر المعاصر، وليس من العقل أو المنطق أن يظل التاريخ يحكم تفكيرنا ونقاشنا، ويحدد خصومات البعض ومعاركهم السياسية.
قرن من الزمان مضى على ميلاد عبدالناصر.. وحوالى نصف قرن مرت على موت الرجل، ومازال هناك من يلصق باسم عبدالناصر كل المسؤولية عما مر بمصر من مشكلات وأزمات، ويطعن فى وطنيته وإخلاصه للوطن. فى المقابل هناك من يراهن على إعادة إنتاج أفكار ونظام عبدالناصر فى الواقع الحالى، على الرغم من تغير العالم فكريًا وسياسيًا، واختلاف أنماط الحياة والثقافة والتكنولوجية فى القرن الواحد والعشرين.
لقد تغيرت مصر والعالم تمامًا بعد ثورة الإنترنت وتكنولوجيا الاتصال وتحولات مفاهيم القوة والثروة على الصعيدين الفردى والاجتماعى، علاوة على تغير موازين القوى فى العالم والنظام العالمى، ومع ذلك هناك من يحاول أن يرجع بنا إلى عالم عبدالناصر ورؤية الرجل وأفكاره.
قناعتى الشخصية أنه لا يمكن لعاقل أن يطعن فى وطنية وإخلاص الرجل، وزهده وطهارة يده، ورفضه للفساد والإفساد، فضلاً عن أهمية دوره التاريخى فى مصر والعالم، وبالتالى فإن حكاوى القهاوى والمسلسلات التليفزيونية التى تسىء لعبدالناصر وتتبارى فى اتهام الرجل مرة بالعمالة، ومرة بأنه من أصل يهودى، ومرة ثالثة بأنه كان من الإخوان ثم تآمر عليهم، ومرة رابعة بأنه كان شيوعيًا.
كل هذه الاتهامات الخزعبلاوية وغيرها.. لابد من مناقشتها والتصدى لها، ليس من خلال المنع أو إصدار قانون بعدم الإساءة إلى عبدالناصر ورموزنا الوطنية، ولكن أقصد بالتصدى لها من خلال إعداد بحوث ونشرها فى كتب محترمة، تعتمد على جهود فردية وجماعية لباحثين فى تاريخ مصر السياسى والاجتماعى والاقتصادى.. كتب ودراسات تعتمد أصول البحث العلمى المنضبط، ولا تعتمد على الذكريات وتصفية الحسابات مع عبدالناصر.
لقد صدرت عشرات الكتب عن شخصية عبدالناصر ودوره فى ثورة يوليو وسنوات حكمه، ومع ذلك لا يوجد إلا عدد محدود للغاية من الكتب التى اعتمدت على المنهج العلمى فى توثيق المعلومات وتحليلها واستنتاج النتائج، من هنا أكرر فكرتى التى ناقشتها فى أكثر من مناسبة، وهى أن تاريخ مصر المعاصر لم يُكتب بشكل علمى وبعيدًا عن مشاعر الحب أو الكره، وبالتالى هناك حاجة شديدة لإعادة كتابة تاريخ مصر بعيدًا عن العواطف وبعيدًا عن التسييس.
ويا ليت الجامعات المصرية - العامة والخاصة - ووزارة الثقافة وهيئات البحث العلمى تمول وتشجع إصدار بحوث ودراسات علمية عن تاريخ مصر المعاصر، بحيث تتاح أمام الأجيال الشابة، التى ما تزال للأسف تدرس التاريخ المصرى بطريقة مشوهة ومختصرة للغاية، لا تفى بمتطلبات تكوين رؤية تاريخية لدى الشباب، رؤية تعتمد على التسامح والإنصاف، وفهم ترابط وتواصل كفاح الشعب المصرى عبر التاريخ.
ما يزال للأسف بعض الشباب المصرى حائرًا بشأن هل ثورة 23 يوليو، وهل هى انقلاب عسكرى أم ثورة، وذلك رغم التغيرات الاجتماعية والسياسية الهائلة التى أحدثتها ثورة 23 يوليو، ويبدو أن هذه الحيرة ستستمر بشأن تقييم سنوات حكم مبارك والسادات، وهل 25 يناير ثورة أم مؤامرة!
وأتصور أن الجهود الطيبة التى تبذلها حاليا اللجنة القومية للاحتفال بمئوية جمال عبدالناصر أقل بكثير من المطلوب، فعقد مؤتمر فى 15 يناير المقبل، أو تنظيم عدة ندوات ضمن فعاليات معرض الكتاب، لن يحقق ما دعوت إليه بشأن تمويل ودعم بحوث ومؤلفات علمية رصينة عن عبدالناصر والفترة الناصرية، تشكل فى مجموعها أساسًا صلبًا ومراجع موثوقاً بها لكل من يريد التعرف على عبدالناصر وسنوات حكمه.
لقد عايشت وشاركت فى كثير من الندوات والمؤتمرات عن عبدالناصر والناصرية، وانتهى أغلبها إلى إنتاج شفاهى غير مسجل وليس له طابع علمى يمكن لباحثين الشباب الاعتماد عليه. أتمنى ألا تأتى وتنتهى ذكرى مرور 100 عام على مولد عبدالناصر بدون أن تشكل علامة فارقة فى جهود التأريخ الحقيقى والعلمى لعبدالناصر والناصرية.
وفى هذا السياق يمكن للجنة القومية للاحتفال بمئوية عبدالناصر ولوزارة الثقافة ولجمعيات المجتمع المدنى وللجامعات العامة والخاصة أن تتبنى دعم مشروع التأريخ العلمى لعبدالناصر والناصرية، وقناعتى أن الدعم هنا لا يعنى التدخل وإنما تقديم منح غير مشروطة لباحثين للكتابة فى الموضوع، ونشره على نفقة هذه الجهات، وتحت إشراف لجان من أساتذة مشهود لهم بالكفاءة العلمية وعدم التحيز مع أو ضد عبدالناصر.