فى الوقت الذى تتعارض فيه الأيديولوجيات، تبقى العلاقات البريطانية الروسية أحد النقاط التى دائما ما تثير الجدل بين الحين والأخر، خاصة بعدما تكشفه الوثائق السرية التاريخية وكذلك تصريحات بعض المسئولين سواء من هنا أو هناك، حول الحاجة المتبادلة لكلا الدولتين للأخر، رغم حالة التشكك الدائمة من كل منهما تجاه الأخر، وهو ما بدا واضحا فى التوتر الأخير فى العلاقات بين روسيا وبريطانيا على خلفية محاولة تسميم العميل الروسى المزدوج سيرجى سكريبال فى مارس الماضى، حيث كانت روسيا هى أول من أشارت إليها أصابع الاتهام البريطانية فور وقوع الحادث.
إلا أن التصريحات الأخيرة التى أدلى بها المدير الأسبق لجهاز الاستخبارات البريطانية ريتشارد ديرلاف حول الدور الذى لعبته لندن فى دعم الرئيس الروسى فلاديمير بوتين للفوز بالانتخابات الرئاسية الروسية فى عام 2000، عبر ترتيب لقاء جمع بين بوتين، والذى كان مرشحا للرئاسة آنذاك، ورئيس الوزراء البريطانى الأسبق تونى بلير، ربما تعكس حقيقة مفادها أن المصلحة البريطانية تكمن فى بقاء روسيا كقوى دولية كبيرة ومؤثرة، خاصة وأن الرئيس الروسى كان أحد مسئولى الاستخبارات السوفيتية من ذوى النفوذ، ومعروف برغبته فى إحياء الإرث السوفيتى.
التاريخ يعيد نفسه.. بريطانيا لم تكن ترغب فى انهيار الاتحاد السوفيتى
ولعل الحديث عن الدعم البريطانى للقوى الروسية ليس بالأمر الجديد تماما، حيث كانت رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارجريت تاتشر تحظى بعلاقة وثيقة مع الرئيس السوفيتى ميخائيل جورباتشوف، رغم كونها إحدى أكبر المناوئات للمبادئ الشيوعية التى طالما تبناها الاتحاد السوفيتى، كما أن بلادها كانت بمثابة أحد أهم رؤوس الحربة فيما كان يسمى بـ"المعسكر الغربى"، والذى قادته الولايات المتحدة لمجابهة القوى السوفيتية، حتى أن شهرتها التى أتت بها إلى منصبها على رأس السلطة فى بريطانيا جاءت من خطاب نارى ألقته للهجوم على الشيوعية عام 1976، أى قبل توليها منصبها بثلاثة سنوات.
مارجريت تاتشر وميخائيل جورباتشوف
ولكن مواقف بريطانيا المناوئة للأيديولوجية السوفيتية لم تكن فى حقيقتها انعكاسا لرغبتها فى انهيار الاتحاد السوفيتى، وهو ما بدا واضحا فى الدور الذى لعبته تاتشر، والمعروفة باسم "المرأة الحديدية"، للتقريب بين جورباتشوف والرئيس الأمريكى آنذاك رونالد ريجان، حيث حرصت تاتشر على دعوة الزعيم السوفيتى الأخير لزيارة لندن، لتذهب بعد ذلك إلى كامب ديفيد للقاء الرئيس الأمريكى لإقناع ريجان بأن الزعيم السوفيتى الجديد سوف يكون مختلفا إلى حد كبير عن زعماء الكرملين السابقين.
لم تقتصر علاقة تاتشر بجورباتشوف على مجرد الوساطة للتهدئة بين الاتحاد السوفيتى والغرب، وإنما امتدت إلى استنجادها به لمنع سقوط حائط برلين، وتوحيد ألمانيا، خاصة وأنها أدركت أن توحيد الألمانيتين سيكون بمثابة بداية النهاية للنفوذ البريطانى فى أوروبا لصالح ألمانيا الموحدة، حيث ستتمكن ألمانيا من تقديم نفسها للقوى الأمريكية المهيمنة كحليف أقوى يمكن الاعتماد عليه بديلا للقوى البريطانية المنهكة.
بلير يدعم بوتين.. محاولة لتحقيق رؤية تاتشر
من هنا نجد أن بقاء القوى السوفيتية، أو فيما بعد وريثتها الروسية، تبقى أحد أهم أولويات السياسة الخارجية البريطانية، حيث تجد بريطانيا أن بقاء روسيا كقوى دولية يضمن تحقيق قدرا من التوازن تستطيع من خلاله الحكومة البريطانية القيام بدور فعال على المستوى الدولى، وهو الأمر الذى يفسر الدعم البريطانى بعد ذلك لبوتين، باعتباره قادرا على استعادة دور روسيا ولو بشكل جزئى، بالإضافة إلى عداءه التاريخى لألمانيا على اعتبار أن توحيدها كان بمثابة المقدمة الطبيعية لانهيار الكيان السوفيتى، وهو ما يساهم بصورة كبيرة فى احتواء النفوذ المتنامى لبرلين.
بوتين وبلير
يبدو أن حكومة تونى بلير سعت عبر دعمها للرئيس الروسى فلاديمير بوتين، خلال أول انتخابات رئاسية يخوضها فى عام 2000، ليس استعادة الهيمنة الروسية على منطقة أوروبا الشرقية، وإنما تحقيق ما سعت إليه تاتشر قبل ذلك من خلال إيجاد الزعيم السوفيتى الذى يمكنه التواصل مع الغرب، دون إخلال بالتوازن الدولى، وهو الأمر الذى نجح بوتين فى تصديره مع سنواته الأولى فى الكرملين، أملا فى الحصول على دعم القوى الغربية لانتشاله من الأزمة الاقتصادية التى ضربت بلاده بسبب ما يسمى بسياسات "البيروسترويكا" التى تبناها سلفه بوريس يلتسين، ولكن دون جدوى، وهو ما دفعه نحو السعى لاستعادة مكانة روسيا الدولية، لينجح فى ذلك ويتمكن من مزاحمة النفوذ الأمريكى فى العديد من مناطق العالم.
قضية سكريبال.. ماى تعيد إحياء التهديدات السوفيتية
يبدو أن التوتر الأخير فى العلاقات البريطانية الروسية على خلفية تسميم العميل الروسى سيرجى سكريبال، وابنته فى لندن، يمثل حلقة جديدة من لعبة القط والفأر، التى اعتادت الدولتان على ممارستها، ولكن يبقى بقاء القوة الروسية ضمانا مهما لاحتفاظ بريطانيا بنفوذها، وهو الأمر الذى يبدو واضحا فى التصريحات البريطانية التى تواترت فى بداية الأزمة حول احتمالات امتداد التهديدات الروسية لمناطق أخرى فى القارة العجوز.
رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماى
الموقف البريطانى من روسيا ربما يبدو محاولة صريحة لحشد أوروبا فى نفس الخندق مع لندن لمجابهة روسيا، إلا أنه فى يحمل فى طياته أهدافا أخرى أهمها القيام بدور قيادى فى محيطها الإقليمى، من خلال إعادة إحياء التهديد السوفيتى من جديد، والتلويح بخطورة تكرار الانتهاك الذى ارتكبته السلطات الروسية فى الأراضى البريطانية فى دول أخرى من أعضاء المعسكر الغربى، وبالتالى كان الترويج البريطانى لقوة روسيا وتهديداتها وسيلة ربما سعت لاستخدامها رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماى لتحقيق التقارب مع جيرانها الأوروبيين بعد الهزة الكبيرة التى أحدثها البريكست خلال السنوات الماضية.