- فى كنيسة الـ49 شهيدا.. سيرة رهبان النور والشجاعة فى مواجهة البربر
- فى كنيسة أبومقار.. تاريخ يتجدد فوق أجساد القديسين الثلاثة
عند لافتة «دير أبومقار» التى تطل من بين غابة شجرية فى منتصف طريق مصر الإسكندرية الصحراوى، انحرفت بنا السيارة يمينًا وعبرت بوابات أمنية وحواجز حديدية حتى أخذتنا إلى طريق شجرى آخر، يصل بنا إلى بوابة الدير الرئيسية، حيث كانت الأشجار المتساقطة تكسو الطريق، بينما النخل على اليسار أصله ثابت وفرعه فى السماء.
تشبه الأشجار المتساقطة حالة الدير، الذى تخلص من شجره الذابل فبدأ العمال فى كنسه، بينما ظل النخل ممتدًا يعانق السماء ولا يعبأ بما يدور على الأرض، هكذا كان الدير الأزمة الذى تصدر عناوين الصحف المصرية والأجنبية، بعدما شهد فى نهاية يوليو الماضى جريمة مقتل الأنبا أبيفانيوس رئيس الدير على يد اثنين من الرهبان، فانتقلت أخباره من صفحات العلوم كمنارة علمية وبحثية ولاهوتية ربما هى الوحيدة فى الكنيسة القبطية، وذهبت به إلى صفحات الحوادث كمسرح لجريمة قتل هى الأخطر فى تاريخ الكنيسة الحديث.
واصطفت السيارة، وعبرنا بوابة الدير، لتكون اليوم السابع أول صحيفة تزور الدير بعد مقتل الأنبا ابيفانيوس رئيس الدير حيث كان ينتظرنا راهب شيخ يضع على رأسه القلنسوة القبطية، ويرتدى جلبابه الأسود البسيط مبتسمًا بوداعة الزاهدين العلماء، تلاميذ متى المسكين وخلفائه الذين كان الشهيد الأنبا أبيفانيوس زهرتهم جميعًا.
وأشار الراهب الشيخ بيديه لقوس أثرى فى مدخل الدير وبدأ يروى تاريخ اكتشافه فقال إن العام 1969 شهد اكتشاف هذا القوس الذى كانت الرمال تغطيه من كل اتجاه فلا يبين له رأس من ذيل، وظل مغمورًا بالرمال عشر سنوات، قبل أن يقرر البابا كيرلس السادس أن يرسل القمص متى المسكين وتلاميذه من الرهبان لتعمير الدير وإعادة الحياة الرهبانية فيه، فما كان من القمص متى إلا أن استدعى مقاولًا ليزيح التراب الذى كان يهدد باقى مبانى الدير وكنائسه الأثرية، فطلب الرجل مبلغًا كبيرًا جراء ذلك، قابل الرهبان طلباته بالصلاة والتضرع للمقارات الثلاثة، آباء الدير، القديس الأنبا مقار الكبير، والقديس مقار السكندرى، والقديس مقار الأسقف، وحين بدأ الرجل العمل على إزاحة الرمال ظهر القوس الذى تبين أنه المدخل الرئيسى للدير ويعود تاريخه للقرن السابع الميلادى، ثم رفض المقاول أن يتقاضى أجرًا جراء ذلك بعدما حلت بركة القديسين عليه وعلى عمله، ثم تمكن رهبان الدير من دارسى الآثار من ترميم القوس الأثرى من أجل تثبيته حتى يظل قائمًا فى مكانه حتى اليوم.
هيكل أثرى يصمد بصلوات آباء الرهبنة الأوائل
سار بنا الراهب الشيخ، من قوس الدير وبوابته الأثرية حتى الكنيسة الأولى، كنيسة الأنبا مقار، خلع نعليه على الباب وكذلك فعلنا، فتح بابًا خشبيًا قديمًا، ثم دخل ناحية هيكل الكنيسة الأثرى، وعلى اليسار أجساد المقارات الثلاثة آباء الدير، رهبان البرية الأوائل، من تركوا الدنيا لأجل البحث عن الله فى الصحراء، فصار لهم أتباع وتلاميذ ومريدون يهتدون بهديهم، ويستظلون بنورهم، بينما كان قنديل يتدلى من سقف الكنيسة يزيد النور نورًا، وحولهم على الحائط رسم لطاووس منتفخ بريشه البهى، يسقط كل عام، ويتجدد مرة أخرى، دلالة على القيامة والحياة الأخرى بعد الموت كما يقول الراهب الشيخ، وجواره رسم آخر لنبات الكرمة الذى تؤخذ منه كؤوس سر التناول.
وقف الراهب الشيخ أمام هيكل الكنيسة الأثرى، باب خشبى برسوم إسلامية وصلبان منحوتة، وفراغات الأرابيسك عن يمينه ويساره، وقال الراهب إن الهيكل بنى عام 360م بعد وصول القديس أبو مقار للدير، وينقسم الهيكل لأربعة جوانب وفى كل جانب منها صورة للشاروبيم أى الملائكة ثم يتوقف الراهب قائلا: «كان أبومقار جمالًا يأخذ الملح من وادى النطرون ويبيعه فى بلدة أخرى، وحين كان ينقل الملح استراح جوار تبة واضعا يده على قلبه فرأى ملائكة تبشره أن الله وزن قلبه وعلى قدر الوزن سيعيش فى تلك المنطقة»، وتبة الشاروبيم موجودة هنا فى الدير ونستطيع منها أن نرى الأديرة التى عاش فيها الأنبا مقار هنا فى المنطقة فيظهر من أسفلها دير الأنبا بيشوى».
ويؤكد الراهب الشيخ، أن الفرس حين دخلوا مصر هدموا كنائس كثيرة فى مصر وحين دخل العرب وسمحوا ببناء الكنائس تمكن الرهبان من بناء أكبر كنيسة هنا فى الدير وقد كان ذلك فى الفترة ما بين عامى 650 و680 ميلادية فى بداية دخول الإسلام مصر، وقد كانت أكبر كنيسة فى مصر فقد تخرج منها 35 بابا للإسكندرية»، ويضيف: «أما فى القرن العاشر فقد حدث زلزال قوى هز مصر كلها حتى انتقل جبل المقطم من موضعه وتأثرت الكنيسة هنا وسقط ما يقرب من ثلثيها وبنى الرهبان كنيسة صغيرة جدا فوق الجزء الذى بقى من آثار الزلزال».
ويترك الراهب هيكل الكنيسة، ويسير إلى ركن منزوٍ فى الكنيسة ثم يرفع عن غطاء يظهر تحته قبو يضاء بالكهرباء به آثار لحفريات أسفله يقول إن هذا القبو مقبرة للنبيين يوحنا المعمدان وإليشع النبى، والتى تم الكشف عنها عام 1976 بشكل غير رسمى، عندما بدأت عمليات ترميم وتوسيع للدير بإشراف القمص متى المسكين، وتم الإعلان رسمياً عن هذا الكشف فى نوفمبر 1978.
ونترك كنيسة المقارات الثلاثة ونمشى فى طرقات الدير، حتى نصل لكنيسة الـ49 شهيدا، شهداء برية شيهيت، شيوخ الرهبان الذين وضعوا حياتهم فداء للإيمان، فظلت أجسادهم شهودًا، فقد كان ذلك فى زمن غارات البربر على الأديرة، هجوم للسلب والنهب، اعتاده الرهبان حتى أن كافة الأديرة بنت لنفسها حصونا تقيها شر الغزوات، أما شيوخ شيهيت وحين واجهوا الغارة الثالثة على الدير عام 444 م، هرب بعض منهم إلى الحصن ورفعوا السقالة بينما رفض 49 منهم ذلك مفضلين المواجهة فنالوا جميعا الشهادة، يدفنون فى الدير تتناقل الأجيال سيرتهم، وتتلى فوقهم الصلوات.
نغادر القديسين ونتلو على أرواحهم سلامًا، ونسير حتى نصل كنيسة القديس أباسخيرون أى الأب القوى، وهو قديس قبطى من زمن الاضطهاد يقول الراهب الشيخ وهو يشير لباب بهى على يسار الكنيسة، يسمى الباب الجليل، فوقه زخرفة دقيقة من الطوب الأبيض مكتوب عليه «كان الفراغ منه سنة 170 للشهداء أى فى القرن الرابع عشر»، وأعلى الكنيسة قبة سماوية مربعة الشكل، كتحفة معمارية أخرى تضىء سماء هذا الدير يعتقد أنها من آثار القرن السابع الميلادى.
فى مكتبة أبومقار.. موطن الصلاة الدائمة والحكمة العالية
نترك الكنيسة ونسير فنرى الحصن الأثرى قد أطل من اليسار، يروى سيرة الاختباء من هجمات البربر ولا يسقط بالتقادم وفى الناحية الأخرى تظهر منطقة القلالى الأثرية أى مساكن الرهبان القديمة، ثم نكمل السير حتى يقرر الراهب الشيخ أن يأخذنا إلى المكتبة أشهر معالم دير أبومقار «موطن الصلاة الدائمة والحكمة العالية» كما يعرف فى التاريخ القبطى، حتى أن الدير الكبير يتمتع بأكبر مكتبة مخطوطات تحفظ دوره كجامعة بحثية قبطية يقبل عليها الباحثون فى علوم الكتاب المقدس والمخطوطات والتراث القبطى والآثار، يفتح الراهب الشيخ المكتبة الأولى فتبدو أرفف الكتب على الجانبين وفى المنتصف طاولات للقراءة والدرس، ثم يسير فى ممر طولى حتى يفتح بابا جديدا تظهر فيه كنيسة داخل المكتبة لتقترن الصلاة بالعلم خلف أسوار أبومقار العالية، وإلى جوار الكنيسة باب آخر ينفتح على مكتبة أخرى للمخطوطات الأثرية بالمكتبة كتب مقدسة عتيقة يرجع تاريخها للقرن التاسع وكتب الخولاجى المقدس، وسير القديسين وغيرها من علوم اللاهوت، وفى غرفة ثالثة تظهر أجهزة المكيروفيلم إذ يحاول رهبان الدير نسخ كل تلك المخطوطات على الكمبيوتر حتى لا تضيع.
جلسات الدرس وأيام النقاش
نغادر المكتبة الهائلة، ونمشى حتى نرى مبنى صغيرا كان الأنبا أبيفانيوس شهيد الدير الجديد، يجتمع فيها بالآباء الرهبان يتدارسون ويتناقشون فى قضية علمية أو بحثية يحددونها مسبقا كحلقة درس يحضرها ما يقرب من 40 راهبا، كما يقول الراهب الشيخ، ثم يشير من بعيد لممر تحيطه نخلتان ويتوسطه برميل أزرق، ويؤكد أن هذا الممر قد شهد الجريمة البشعة التى نالت من الراهب الشهيد الأنبا أبيفانيوس رجل العلم والصلاة.
نركب سيارتنا مرة أخرى، لنودع الأنبا أبيفانيوس فى «الطافوس» أى مقابر رهبان الدير، وعلى باب المقابر لوحة رخامية كتب فيها «تم تجديد الطافوس ونقل رفات الآباء فى عصر البابا تواضروس الثانى وتحت إشراف الأنبا أبيفانيوس رئيس الدير عام 2015»، جدد الأنبا أبيفانيوس المقابر وكأنه يطمئن على مكان نومته الأبدية، وعند لوحة تحمل اسمه وتسجل تاريخ استشهاده نرى ورودا قد تركها الزوار لتؤنس الشهيد فى نومته.
ضريح متى المسكين.. صلبان تضىء فى قلب الجبل
من قبر الأنبا أبيفانيوس، إلى ضريح الأب الأستاذ، القمص متى المسكين، يرقد فى مكان آخر، فى منطقة جبلية وفوق تبة عالية لا نصلها إلا بالسيارة، على مدخلها نرى شاهدا لقبره حتى نصل لأعلى وقد أحيطت المنطقة بحجارة من كل اتجاه تنبت منها صلبان حجرية يحمل كل صليب منهم اسم أب راهب من حوارى القمص المسكين وتلاميذه، بينما صليبه ينتصب فى المنتصف منها تعلوه الزهور من كل اتجاه، وعلى شاهد قبره كتب اسمه بالعربية والإنجليزية واليونانية والقبطية، وكل اللغات التى حرص على تعليمها وتعلمها فأخذها معه إلى القبر.
قرية بنى سلامة.. كيف وهب آباء الدير الحياة لجيرانهم الفقراء؟
نترك قبر القمص المسكين، بعد أن أتم الراهب الشيخ مهمته ورأينا بعينيه ما لم نره عن دير العلم والصلاة، ويأخذنا إلى مكتبه الصغير قبل أن ينصرف إلى عمله، بينما يسير عمال الدير ويختفى رهبانه، كل يعمل فى صمت وهدوء ويقول الراهب الشيخ وهو يودعنا: «إذا كان القديس مقار قد بنى لنا ديرنا هذا فالدير بنى قرية بنى سلامة وعمرها، وهى القرية المجاورة لنا فقد وهب لها القمص متى المسكين مدرسة تبرع بها الدير وأسسها بعدما كانت الدراسة فى فصول صغيرة، افتتحناها عام 1985 ومازالت تخدم القرية حتى اليوم، زودناها بالكمبيوتر وبكافة المستلزمات وتخرج أجيالا وأجيالا وتم تأسيسها بناء على طلب عمدة القرية من «أبونا متى»، يتمتم الراهب ويقول: «سمعة الدير ستظل فى القلوب قبل الآذان، دير القديس الأنبا مقار فخر الرهبنة، لا يهتز وسيظل صامدًا بصلوات شهدائه وآبائه القديسين».