فى بدايات ظهور المواقع الإخبارية على الإنترنت كانت هناك تحذيرات من أنه سيقضى على الصحافة المطبوعة، كثيرون لم يلتفتوا للشكل الجديد من الصحافة ولكن بعد أكثر من 20 عاما بدأت الضربات تتلاحق على قلاع الصحف الورقية، حتى وصلت للمنطقة العربية بصدور صحيفة "النهار" اللبنانية صباح الخميس 11 أغسطس بصفحات بيضاء بلا كلمة مكتوبة.. فكيف كان الحال فى الصحف الأجنبية.
السوق الأمريكى يتلقى الضربة الأولى
فى 2009 بدأ الصحافة المطبوعة فى أمريكا تشعر بالضغط من جانب انتشار المواقع الإخبارية، البداية كانت مع صحف محلية صغيرة تعلن التحول للنسخ الإلكترونية على الانترنت فقط أو على أقل تقدير تخفيض عدد النسخ المطبوعة.
سان فرانسيسكو كورنيكل
سان فرانسيسكو كورنيكل تجنبت إغلاق الصحيفة نفسها عندما وافق كل الموظفين فيها على تقديم تنازلات ضخمة فى رواتبهم وامتيازاتهم بحيث يعملون 40 ساعة بدلا من 37 ساعة ونصف وتخفيض العمالة بفصل 150 من العاملين.
ومع ذلك قال مكتب التحرير بالصحيفة إن معدلات البيع فى النسخة المطبوعة تراجعت 25% فى 6 أشهر منذ شهر مارس الذى تنازل فيه طاقم الصحيفة عن الكثير من حقوقهم، لكن المكتب قال إن النقص كان متوقعا نتيجة السياسة التحريرية الجديدة التى تعمل على الاشتراكات السنوية مرتفعة الثمن بدلا من ترك الصحيفة مفتوحة للقراء مجانا على الانترنت أو بنسخة ورقية ثمنها منخفض.
بينما صحف محلية ودور نشر فى أمريكا مثل "مينيابوليس ستار تريبيون" و"جورنال ريجستير" و"تريبيون"، ومجموعة "صن تايمز ميديا" أعلنت كلها الإفلاس فى نفس العام تقريبا.
أزمة نيويورك تايمز
فى نفس العام أيضا تعرضت نيويورك تايمز لأزمة مالية كبرى حيث انخفضت أسهمها لخمسة دولارات للسهم الواحد، فقامت الشركة المالكة للصحيفة بتخفيض النفقات عبر بيع أو تأجير مكاتب ومخازن تابعة لها، ثم باعت جزء من الأسهم للملياردير المكسيكى كارلوس سليم على أن يدفع المال "كاش" ومع ذلك لم تحل الأزمة بسهولة لدرجة أن الشركة المالكة والتى تملك أيضا صحيفة "بوسطن جلوب" هددت بإغلاق "بوسطن جلوب" مالم يقدم العمال فيها تنازلات على غرار سان فرانسيسكو كورنيكل.
وبالنسبة للجزء الإلكترونى قامت الصحيفة بتخصيص أغلبه باشتراكات شهرية وسنوية حتى تضمن عائدات لمن يريد قراءة مقالاتها.. هذا لا يعنى أن الأزمة انتهت ففى 2017 قامت الصحيفة بتسريح 100 من محررى الديسك والذين كانت مهمتهم تصحيح الأخبار وبالتالى الصحيفة كلها لم يبقى فيها سوى 50 محرر للتصحيح مع توقعات بأن يتم تسريحهم هم أيضا مع الوقت الأمر الذى جعل الصحفيين ينظمون مظاهرة أمام الصحيفة.
مظاهرة صحفيين نيويورك تايمز
هذه السياسة دفعت الملياردير روبرت مردوخ الذى يملك صحف عديدة لتكرارها مع صحيفة "وول ستريت جورنال" بجعلها مفتوحة على الانترنت فقط للمشتركين لديه، لكنه على نحو أخر أجل سياسة التوسع التى كان يريدها للصحيفة والتى كان يريد فيها تعيين أعداد كبيرة من الصحفيين.
جيف بيزوس ينقذ "واشنطن بوست"
صور من حملة انتقادات شراء جيف بيزوس لواشنطن بوست
واشنطن بوست الصحيفة المنافسة لنيويورك تايمز كانت على موعد مع الأزمات بسبب تراجع عائداتها بسبب اتجاه القراء لتفضيل النسخة الإلكترونية.. لكن تدخل الملياردير، جيف بيزوس مالك شركة أمازون وقام بشراء الصحيفة ومعها صحف أخرى صغيرة فى 2013 فى صفقة قيمتها 250 مليون دولار باستثناء مجلة نيوزويك، لأن واشنطن بوست كانت قد باعتها بالفعل قبل سنوات.. لكن صفقة بيزوس واجهت عقبات حيث تلقى اتهامات بأنه يشترى الصحف ليضمن أن تتم كتابة مقالات وتقارير إيجابية عنه وعن شركة أمازون، وهو الاتهام الذى يستمر الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى الإشارة له فى تغريدات له.. حتى تعهد بيزوس بضمان استقلال الهيئة التحريرية للصحيفة وعدم التدخل فيها.
التدخل الحكومى
بسبب سلسلة الأزمات التى واجهت الصحف الأمريكية تقدم مجموعة من أعضاء الكونجرس بمشروع قانون فى 2009 ليسمح للشركات المالكة للصحف بإعادة هيكلة نفسها بحيث تكون شركات غير هادفة للربح مما يعفيها من الضرائب بنسبة كبيرة، لكن ظلت عقبة فى القانون وهى أن الصحف التى تصنف نفسها كمؤسسات غير هادفة للربح لم يعد بإمكانها تقديم الدعم لمرشحين سياسيين تجنبا لشبهة المال السياسى.. وهذا فى المقابل أثر على نسبة الأموال التى كانت تحصل عليها الصحف مقابل إعلانات دعاية لمرشحين سياسيين.
بريطانيا الموجة الثانية
بعد وقت قصير من ضربة الصحف المطبوعة فى أمريكا، واجهت الصحافة البريطانية أزمة مشابهة وكان أكبر المتضررين صحيفة الإندبندبنت.
صحفيو الإندبندنت وقت التأسيس ووقت إعلان إغلاق النسخة المطبوعة
الصحيفة تلقت الضربة مرتين الأولى فى 2008 عندما أعلنت تسريح العديد من موظفيها، ثم فى 2016 أعلنت إيقاف النسخة المطبوعة تماما والاكتفاء بالموقع الإلكترونى، وقالت الصحيفة إنها ستكتفى بالنسخة على الانترنت مفتوحة لضمان وصول الأخبار للقراء بدون الإثقال عليهم بالمال.
ونفس الشئ قامت به الإيكونوميست التى اوقفت النسخة المطبوعة تجنبا للخسائر وتركت النسخة على الإنترنت جزء منها مفتوح للقراء مجانا وجزء منها بالاشتراك.
وبالنسبة للصحيفة الأكبر ضمن الصحف القديمة "التايمز" كانت الأزمة الأكبر بانخفاض المبيعات مقابل استمرار رواج صحف أخرى أقل شأنا منها مثل "الصن" و "ديلى ميل".. فلجأت الصحيفة إلى إغلاق نسختها الإلكترونية وجعلها متاحة فقط للمستخدمين المشتركين، وبالنسبة للصحيفة الورقية تم تخفيض النسخ المطبوعة لدرجة أنها أصبحت صحيفة للنخبة.
وتوقع تيم ريجبى المحرر المختص بشئون الإعلام بالصحيفة أن موجة الأزمات سوف تستمر حتى تقضى على الصحف الورقية كلها متوقعا أن تكون الجارديان والتليجراف الأهداف القادمة.
فيما توقع ستيفن جلوفر مؤسس صحيفة "الإندبندنت" أن يتم إيقاف طباعة "الجارديان" و"التليجراف" فى فترة بين 10 إلى 15 عاما.
المجلات تهرب للذكاء الصناعى
بجانب تخفيض النفقات وإغلاق النسخة الورقية، حاولت صحف ومجلات مثل "فوج" و "لوموند" الهرب من مصير الصحف الزميلة المغلقة واستغلال الذكاء الصناعة وتقنيات الواقع المعزز AR فى حماية النسخ المطبوعة.
وذلك بأن تشترى النسخة الورقية المطبوعة ثم تستخدم تطبيقات خاصة على هاتفك المحمول فتتحرك المقالات والصور فى الشاشة وتتحول لفيديو أو أشكال ثلاثية الأبعاد.. لكن ظلت التجربة محدودة حتى الأن بسبب التكلفة وعدم انتشار الفكرة بعد، خاصة مع كون النظرة العامة هى أن قراء النسخة الورقية هم من كبار السن الذين لا يفضلون الهواتف الذكية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة