شأن كل الطغاة الذين يعشقون الظهور أمام الكاميرات وانتزاع التصفيق الحاد من البسطاء بالخطابات الحماسية المجانية، أدار رجب أردوغان أزمة القس الأمريكى المحتجز لديه منذ ديسمبر 2016 على مسارين، مسار غوغائى عنترى موجه إلى العوام الأتراك الذين يظنون أن زعيمهم المفدى ينقلهم بكلماته من الفقر والتخلف إلى الرفاهية ومن مصاف الدول المأزومة إلى الدول العظمى، ومسار آخر سياسى تفاوضى يرسل خلاله البعثات والوفود إلى واشنطن، ويعقد الاجتماعات مع المبعوثين الأمريكيين، بحثا عن صفقة تحفظ ماء وجهه أمام مناصريه، ورأينا وسمعنا جميعا السلطان العثمانى المزيف يتحدى ترامب علنا ويقول: «اضربوا دماغكم فى الحائط لن أفرج عن قسيسكم أندرو برانسون لأنه عميل لفتح الله جولن وجاسوس»، بينما يطالب المسؤولين الأمريكيين بمنحة أى ذريعة تمكنه من إطلاق سراح برانسون دون أن يغضب الأتراك.
الوقائع تقول إن القس الأمريكى بات حرا ووصل إلى الولايات المتحدة بالفعل، بعد أن أعطى أردوغان أوامره إلى المحكمة المختصة لتصدر أمر الإفراج عن برانسون، ويغادر فى سرية تامة وبعيدا عن كاميرات وسائل الإعلام، وحاولت بعض الدوائر المقربة من الرئيس التركى تصوير الأمر على أنه صفقة سرية نجح خلالها أردوغان فى إطلاق سراح امرأة تركية مسجونة فى إسرائيل! هكذا يلعب الخيال الأردوغانى على ديماجوجية البسطاء الذين يحررون القدس وينتزعون المسجد الأقصى بهتافاتهم الغاضبة فى اسطنبول وأنقرة ثم يذهبون إلى بيوتهم بينما القدس والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة كما هى تحت الاحتلال الإسرائيلى، لم يصلها شىء من رذاذ هتافات المخدوعين بأكاذيب الديكتاتور.
أردوغان مثله مثل أى ديكتاتور متسلط يحتقر إرادة الجماهير ويستغلها لمصالحه الشخصية البحتة، ويراهن على أن ذاكرة البسطاء المخدوعين بسياساته وألاعيبه لا تستوعب أكثر من يوم ، ولذلك نسى هو أيضا أو تناسى تصريحاته العنترية ومواقفه الساذجة التى حاول تصوير قضية القس برانسون على أنها معركة جبارة بينه وبين ترامب وأن تركيا قادرة على رد الضربات لواشنطن وفرض العقوبات عليها مثلما فعلت واشنطن بالضبط.
والمتتبع لتصريحات أردوغان منذ بداية الأزمة يرى العجب فى تحولات هذا الديكتاتور المخبول، ففى البداية قال إن تركيا يمكنها إطلاق سراح برانسون بشرط تسليم السلطات الأمريكية فتح الله جولن لأنقرة، وسلم لى على القضاء وأحكامه، وعندما تجاهلت واشنطن مطالبه وقررت توقيع عقوبات اقتصادية على تركيا، واجه التصعيد بتصعيد حنجورى من قبيل: «أنقرة لن تغير موقفها رغم التهديد بفرض عقوبات أمريكية عليها»، «هذه حرب نفسية ولن نتراجع مع العقوبات»، «نحن لا نساوم فى قضية برانسون»، «لا يمكنكم أن تجعلوا تركيا تتراجع من خلال فرض عقوبات»، «تغيير الموقف مشكلة ترامب وليس مشكلتى»، ثم أصدر توجيهات كوميدية بفرض عقوبات وتجميد ممتلكات وزيرى العدل والداخلية الأمريكيين فى تركيا، إن وجدت، ردا على الموجة الأولى من العقوبات الأمريكية، لكن فى النهاية رضخ لطلبات الإدارة الأمريكية وفشل فى إخراج القضية بصورة تحفظ ماء وجهه أمام مؤيديه!
أين ذهبت عنترية أردوغان فى ظنكم؟ وهل هذه الشجاعة مجرد وصلة تمثيل قبل أن يرجع عنها السلطان العثمانى المزيف؟ وقائع تاريخ أردوغان كله منذ كان حاكما لبلدية اسطنبول تؤكد ولعه بالاستعراض والصدام بهدف اكتساب الجماهير، لكنه هذه المرة خسر كثيرا فى إدارته للقضية فلم ينجح استعراضه بقدر خسارة الاقتصاد التركى الفادحة جراء العقوبات الأمريكية، حتى وهو يرضخ لم يستطع إقناع ترامب ومساعديه بوقف العقوبات على الصادرات التركية وأصدر الأوامر على بياض بإطلاق سراح برانسون، دون أن يتذكر أيا من عباراته الحماسية الجوفاء التى أطلقها مثل الطائرات الورقية فوق رؤوس مؤيديه!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة