فى إطار الاتجاه شرقا نحو فتح آفاق جديدة فى شكل علاقات مصر الخارجية، ينجح الرئيس عبد الفتاح السيسى، دوما بسياساته وحنكته، فيما لا تستطيع الحروب على تحقيقه، ويبرهن فى كل مرة على أن مشروع مصر الوطنى يستهدف خلق مجتمعات تنعم بالسلم والأمان، ويحفظ للشعوب حقوقها فى العيش بحياة كريمة حتما سيتحقق، ولعله اعتمد فى هذه الرؤية الثاقبة على الوصول إلى غايته الأسمى بفضل سياسة التوازن التى انتهجتها مصر فى علاقاتها مع المعسكرات الغربية والإقليمية، والتى جعلت منها وجهة يسعى إليها الجميع لعمل شراكات استراتيجية وتنموية والعمل معا لما فيه المصالح المشتركة.
من هنا تأتى أهمية زيارة الرئيس السيسى لموسكو لتمثل انعكاسا لمواصلة القيادة المصرية لنهجها القائم على تنويع التحالفات، منذ ثورة 30 يونيو، حيث كانت التحركات المصرية تتجه بوضوح نحو عدم الاعتماد على حليف واحد، وهو النهج الذى دام لعقود طويلة، ومن ثم عكست الزيارة حرص البلدين على تبادل الدعم السياسى على المستوى الإقليمى والدولى، فى ظل ما يواجهه الطرفان من تحديات خارجية وداخلية تستهدف النيل من الاستقرار السياسى وتهديد الأمن القومى لكليهما وتشاركهما فى رؤية موحدة فى مواجهة الإرهاب، وتحقيق مصلحة مشتركة فى دعم النمو الاقتصادى فى البلدين والفرص الاقتصادية التكاملية.
والمراقب جيداً لتلك العلاقات الاستراتيجية بين مصر وروسيا سوف يلحظ أن ذلك التعاون الاقتصادى بين البلدين لم يقتصر على التجارة فقط، فقد شهد العام الجارى توقيع اتفاقية إنشاء المنطقة الصناعية الروسية فى السويس، وهى الاتفاقية التى رفعت مستوى التعاون بين مصر وروسيا إلى مستوى جديد، ستعنى ليس فقط فرص عمل جديدة واستثمارات روسية فى مصر، ولكنها ستعنى توطين الصناعة والتكنولوجيا الروسية فى مصر، والانطلاق منها إلى أفريقيا والشرق الأوسط، وإضافة للزيادة الكمية فى التعاون الاقتصادى بين مصر وروسيا، شهد ذلك التعاون نقلة نوعية بتوقيع وثيقة يتم بموجبها إعطاء شارة البدء فى مشروع الضبعة النووى، خلال زيارة الرئيس الروسى لمصر فى ديسمبر الماضى، لتدخل مصر عصر الطاقة النووية بالتعاون مع الشريك الروسى.
ومن هذا المنطلق فإننى أعتبر أن الزيارة التى قام بها الرئيس عبد الفتاح السيسى إلى روسيا خلال الأيام القليلة الماضية تعد محطة أخرى ذات أهمية كبرى فى مسيرة العلاقات بين البلدين، والتى شهدت على مدى السنوات الخمس الأخيرة تطورات ملموسة فى مختلف المجالات، فهذه الزيارة الرابعة للسيسى إلى روسيا منذ زيارته الأولى لها كوزير للدفاع عام 2014، كما أن هذا هو اللقاء التاسع بين الرئيس السيسى وفيلاديمير بوتين خلال هذه الفترة، وهناك العديد من المؤشرات تؤكد أن هذه القمة بين الرئيسين دشنت بالفعل لمرحلة جديدة على طريق تطوير العلاقات بين البلدين، والتفاهم السياسى بين القيادتين.
على المستوى الثنائى، فإن هذه القمة عقدت فى وقت انقشع - أو كاد ينقشع تماماً - غبار حادث سقوط طائرة الركاب الروسية، خاصة بعد أن عادت رحلات الطيران الروسى إلى القاهرة، بل إنه من المنتظر أن تغلق هذه الزيارة ما بقى من تداعيات هذا الملف بالاتفاق على عودة رحلات الطيران السياحى الروسى إلى المنتجعات المصرية، أما بقية ملفات العلاقات الثنائية فإن ما ينتظرها هو المزيد من التطور الإيجابى، بعد أن وصل حجم التبادل التجارى إلى نحو 6.5 مليار دولار سنوياً، الأمر الذى يضع روسيا ضمن أكبر شركاء مصر التجاريين، مثل الصين والإمارات العربية وإيطاليا والولايات المتحدة.
وإن كان ما يشغل مصر على هذا الجانب هو التخفيف من العجز فى الميزان التجارى بين البلدين، حيث لا يزيد نصيب الصادرات المصرية إلى روسيا من هذا الرقم الكبير عن 500 مليون دولار، وبقية الرقم يتعلق بالصادرات الروسية لمصر، وهو أمر يحتاج إلى مزيد من الجهد من جانب المصدرين المصريين ومزيد من التسهيلات من الجانب الروسى لدخول المنتجات المصرية وتذليل العقبات فى هذا المجال، وفى مقدمتها صعوبات النقل والمسافات.
وعلى الصعيد الثنائى أيضاً، فقد اقترب مرور عام كامل على توقيع اتفاقية إنشاء مشروع إنتاج الطاقة النووية فى مصر فى منطقة الضبعة والذى تم التوقيع عليه فى 11 ديسمبر 2017 فى القاهرة.
ويعد هذا هو أكبر مشروع مشترك بين القاهرة وموسكو منذ مشروع السد العالى، كما أن له أبعاداً اقتصادية ومالية واستثمارية، فضلاً عن نقل التكنولوجيا المتقدمة فى هذا المجال الذى تحتاجه مصر فى إطار استراتيجية متكاملة فى مجال الطاقة ستجعل من مصر مركزاً إقليمياً وعالمياً لإنتاج وتداول الطاقة بكل مكوناتها ومصادرها المتجددة وغير المتجددة، فضلا عن أنه على الصعيد الثنائى أيضاً، فإن مصر تتعجل إنشاء المنطقة الصناعية الروسية فى المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، خاصة بعدما حقق الاقتصاد المصرى خطوات كبيرة على طريق الاستقرار والنمو والانطلاق، وأصبحت مصر جاذبة للاستثمار بكل المعايير.
وإذا عدنا إلى تطور العلاقة وقوتها مع روسيا التى يربطها بمصر تاريخ حافل من المواقف المشرفة على الساحة الدولية فى الآونة الأخيرة، فإن ذلك يعد رسالة للعالم لإعادة تقييم موقف صناع القرار وتعبيرا عن قدرة مصر على التحرك، الأمر الذى جعل كل هذه العوامل لمصر صوتها المسموع ورؤيتها الثاقبة حول مختلف القضايا، وهى فى ذات الوقت رسالة واضحة للعالم مفادها أن مصر لن تكون تابعة لأى من القوى الدولية، بينما ستصبح علاقتها مع كافة حلفائها قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، وهو الأمر الذى يعكس رغبة قيادة البلدين "مصر - روسيا" على التنسيق الدائم فى مختلف القضايا وتبادل الزيارات، بالإضافة إلى توسيع نطاق التعاون فى جميع المجالات.
وفى واقع الأمر فإن العلاقات بين القاهرة وموسكو شهدت على مدار 75 عاما منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية ديناميكية وحيوية بتبادل الزيارات واللقاءات بين المسئولين المصريين والسوفيت، ولم تتوقف إلا لفترة وجيزة فى السبعينات، لتعود من جديد فى الثمانينات ولكن الظروف الدولية باتت تقتضى إعطاء دفعة جديدة لهذه العلاقات المتميزة، خاصة أن المصريين بالأساس قد تأثروا فى مجال القصة والرواية والشعر بالتجربة الروسية فى الأدب مثل أعمال تولستوى وتشيخوف ودوستويفيسكى وبوشكين، كما أنه منذ العقد الثالث من القرن التاسع عشر شهدت مصر لأول مرة نزوح أحد رواد الثقافة العربية والإسلامية هو الشيخ "محمد عياد الطنطاوى" الذى اهتم بالأدب الروسى والثقافة الروسية ليكمل حياته هناك.
وفى النصف الثانى من القرن العشرين تعزز التعاون الثقافى والعلمى بشدة، حيث استندت القاعدة العلمية التى أقامها الرئيس جمال عبد الناصر فى المجالات العسكرية والصناعية والمدنية على التعاون مع الاتحاد السوفيتى، كما تلقى عشرات الآلاف من المصريين تعليمهم فى المؤسسات الروسية فى مختلف مجالات العلوم والصناعة والفنون والآداب، وعادوا ليتبوأوا مناصب وأدواراً عديدة فى جهود التنمية والثقافة فى مصر.
ولهذا فقد عكست كلمة الرئيس عمق العلاقات التاريخية بين مصر وروسيا أمام مجلس الفيدرالية، منتهزا الفرصة إلى توجيه رسالة تعاون وإخاء من الشعب المصرى، واستعراض الطفرة الاقتصادية والتنموية الهائلة وخطى مصر الثابتة على صعيد التنمية الاقتصادية، وتدشين وتنفيذ العديد من المشروعات على مختلف المستويات، كما أوضح بذكائه المعهود كيفية الحفاظ على كيان الدولة المصرية العريقة ومؤسساتها الراسخة وتجنيب مصر الانزلاق إلى مصائر دول أخرى فى المنطقة مزقتها الفرقة والحرب الأهلية وضاعف الإرهاب البغيض من معاناة شعوبها.
واللافت للنظر أكثر فى تلك الكلمة البليغة هو إشارته الواضحة والصريحة إلى توثيق علاقة مجلس النواب مع البرلمان الروسى وإثراء البعد الشعبى فى العلاقات المصرية - الروسية الراسخة، والتأكد أن هذه العلاقات لا تأتى فقط على المستوى الرسمى إنما تكللها مباركة شعبية تدفعها وتنميها وترتقى بها إلى آفاق أرحب ومستوى أكثر تميزا، مؤكداً أن شعب مصر فى سبيل تحقيق أحلامه وبناء مستقبله يمد يده بالتعاون والمحبة للشعوب الصديقة الجادة التى تدرك حقا معنى وقيمة الأوطان لتسهم معهم فى مواصلة مسيرته التنموية على الصعيدين الاقتصادى والاجتماعى.
كما تضمنت الكلمة فى ثناياها تطلع مصر إلى مواصلة هذا التعاون واستكمال عملية البناء لإضافة المزيد من التميز فى العلاقات المصرية - الروسية، وذلك باستعراض العديد من التشريعات والإجراءات لجذب وتيسير الاستثمار وترحيب مصر بالمستثمرين الروس للمساهمة فى تلك المشروعات وتحقيق المصلحة المشتركة للجانبين، واستعادة زخم السياحة الروسية إلى مصر والتأكيد على أن أجهزة الدولة المصرية لن تدخر جهدا للحفاظ على أمن وسلامة زائريها من جميع أنحاء العالم.
يقينى أن الرئيس وجد الفرصة سانحة للحديث مجدداً حول أن مقاومة الإرهاب أحد أهم حقوق الإنسان، حيث لا يمكن تحقيق تطلعات الشعوب نحو المستقبل الأفضل دون تأمين حقهم فى الحياة الآمنة أولًا، مستعرضا جهود الدولة المصرية فى مكافحة الإرهاب، حيث أكد أن مواجهة الإرهاب تأتى جماعية، ومكافحته أيضا شاملة لا تقتصر فقط على المواجهات العسكرية والتعاون الأمني، إنما تمتد لتشمل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية للحيلولة دون توافر الظروف التى تمثل بيئة خصبة وحاضنة طبيعية لهذه آلافة الخطيرة، بالإضافة إلى اشتمالها على الأبعاد الفكرية والدينية لتصويب الخطاب الدينى وتنقيته من الأفكار المغلوطة والتفاسير الملتوية التى تنافى مع صحيح الدين وقيمه الحميدة وتعاليمه السامية.
ولم ينس السيسى فى هذا الإطار التأكيد على حرص مصر على الوفاء بالتزاماتها وفقا لاتفاقيات السلام، بل إنها استمرت فى القيام بما يمكنها من جهود لإحياء المفاوضات بين الجانب الفلسطينى والإسرائيلى، إيمانا من الدولة المصرية أن استعادة الاستقرار المنشود فى منطقة الشرق الأوسط لن يتأتى دون حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية ينهى معاناة الشعب الفلسطينى التى طالت لعقود، ويضمن له حياة كريمة فى إطار دولة مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، لذا فإن مصر تواصل مساعيها جاهدة للتوصل إلى تسويات سياسية للأزمات المتفاقمة فى سوريا وليبيا واليمن بما يحافظ على وحدة هذه الدول الشقيقة.
ويبدو لى أن سعى مصر بقيادة الرئيس السيسى لتعزيز التنسيق السياسى مع روسيا لمواجهة التحديات التى تمر بها المنطقة فى هذا الوقت تحديدا، إنما يعكس العلاقات التاريخية والثقافية القوية بين البلدين ويسهم فى الارتقاء بقدرتنا على التصدى للمشكلات التى تواجهنا، ومن هنا تتضح أهمية استضافة مجلس الفيدرالية الروسي، للرئيس عبد الفتاح السيسى لإلقاء كلمة أمامه، كأول رئيس رئيس دولة أجنبية يقوم بذلك، وهو ما يعكس حرارة العلاقات بين القاهرة وموسكو، كما أنه يعكس كذلك رغبة روسيا فى أن تظهر الاحترام والحفاوة بمصر ممثلة فى رئيسها، الذى كان دوما وأبدا السبق فى الاتجاه شرقا صوب توطيد هذه العلاقات بيننا وبين روسيا وغيرها من دول الشرق الأخرى، وكان له السبق فى تقريب وجهات النظر التى تباعدت فى فترة من الفترات بيننا وبين تلك الدول، كما أنه صاحب المبادرات الجريئة والشجاعة التى أعادت التواصل والعلاقات مع دول كانت بعيدة عن مصر، متحدثا من منظور القوة وأن مصر موجودة على الساحة الدولية وبقوة، وهو ما يعد نجاحا سياسيا وعسكريا واستثماريا ينعكس بالضرورة على كافة المجالات التى ترمى لبناء الدولة المصرية الحديثة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة