فى الزيارة الأخيرة للرئيس السيسى إلى روسيا احتفل البلدان بمرور 75 عاما على تدشين علاقات الصداقة والتعاون بين البلدين، منذ حقبة الاتحاد السوفييتى السابق وعالم ثنائى القطبية وحلف وارسو الذى يواجه حلف الناتو والمد الشيوعى مقابل الحلم الأمريكى، سنوات طويلة فعلا مرت على علاقات البلدين، لكن هل كانت مصر علاقتها ممتازة وفعالة مع الاتحاد السوفيتى وروسيا خلال هذه السنوات الطويلة؟ وماذا كانت طبيعة علاقاتنا مع الجانب الآخر من العالم فى المعسكر الغربى حينما ازدهرت علاقتنا مع موسكو وحلفائها؟ وما حساب الأرباح والخسائر خلال هذه السنوات التى شهدت أربع مراحل من الحكم واضح الملامح، مرحلة عبد الناصر ثم مرحلة السادات ثم مرحلة مبارك وأخيرا مرحلة السيسى؟
أجد من المهم أن نبدأ جرد كشف الخسائر والأرباح فى علاقتنا بموسكو من المرحلة الأخيرة، مرحلة السيسى، وتذكرون جميعا كيف تسلم السيسى حكم البلاد فى ٢٠١٤ بعد خمس سنوات من الفوضى والانهيار الاقتصادى واستهداف البلاد بمشروع الفوضى الخلاقة الصهيو أمريكى، حتى وصل الأمر بالدول القزمة ونفايات التاريخ والجغرافيا أن تعلن على الملأ تدخلها فى الشؤون المصرية، وفى هذه الأثناء أيضا استحكمت أزمة العلاقات المصرية الأمريكية ووصلت إلى وقف المساعدات العسكرية بعد ثورة ٣٠ يونيو وفرض حصار اقتصادى غير معلن علينا.
وفى هذه الأجواء السلبية بالكامل، عمل السيسى على إعادة مد الجسور مع المعسكرين الشرقى والغربى على السواء، فنذكر مثلا انفتاحه على روسيا بعد طول تجاهل وبرودة العلاقات أيام مبارك، واستطاع بهذا الانفتاح المحسوب أن يخدم البلد خدمة كبيرة سياسيا وعسكريا واقتصاديا، فقد ألقت روسيا بثقلها خلف السيسى بعد أن تعرضت مصالحها الاستراتيجية فى ليبيا للضرر الشامل وبعد إعلان واشنطن وحلفائها عزمهم عن إزالة الوجود الروسى من سوريا وحرمان روسيا من الوجود فى البحر المتوسط.
انفتاح السيسى الكبير على روسيا وجه رسالة بالغة القوة إلى واشنطن وحلفائها بأنهم قد يخسرون مصر لعقود طويلة مقبلة ومعها الدول العربية الكبرى والعمق الأفريقى المساند، فكان التراجع الغربى عن مواقفه المتعنتة تجاه مصر، صحيح أن هذا التراجع لم يحدث دفعة واحدة، بل تم تدريجيا، مع محاولات غير معلنة للضغط علينا ولى ذراعنا بملفات مفتعلة مثل ملف حقوق الإنسان، إلا أن الموقف السياسى المصرى أجبرهم على الجلوس إلى الطاولة وسماع تفسيرنا لثورة ٣٠ يونيو وما نتج عنها من آثار، ولعل كلمة السيسى أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2015 وشرحه الوافى لما حدث بمصر ونجاحه فى حشد التأييد الدولى وتصحيح الصورة النمطية المغلوطة عنا، كل ذلك أجبر، نعم نقول أجبر، إدارة باراك أوباما فى عاميها الأخيرين على التعامل معنا بقدر من الموضوعية والاهتمام.
ومع ازدهار العلاقات المصرية الروسية شهدت العلاقات المصرية الأمريكية نموا كبيرا مع تولى دونالد ترامب مقاليد الرئاسة وحظى السيسى باستقبال وحفاوة بالغين خلال زيارته للبيت الأبيض، كما أعلن ترامب فى أكثر من مناسبة تقديره الكبير للسيسى ومصر على صعيد مكافحة الإرهاب، كما أفرج عن جميع المساعدات العسكرية لمصر وعزز من مستوى التعاون بين البلدين، متجاهلا الافتراءات والتقارير السياسية الموجهة حول حقوق الإنسان.
زيارة السيسى الأخيرة لروسيا كشفت بوضوح حجم وطبيعة مشروعات التعاون العملاقة التى يضطلع البلدان بتنفيذها حالياً، ومن بينها إقامة محطة الضبعة النووية لتوليد الكهرباء، ومشروع إقامة المنطقة الصناعية الروسية بمحور قناة السويس، التى تعد المنطقة الصناعية الروسية الأولى خارج أراضى روسيا، وما تمثله من شراكة جديدة تتخطى مرحلة الاستثمار والتبادل التجارى لتصل إلى مراحل التصنيع المشترك، فضلا عن استعادة حركة الطيران الشارتر من كبرى المدن الروسية الى المقاصد السياحية المصرية.
يمكننا القول إذن إن العلاقات المصرية مع أكبر قوتين فى العالم واشنطن وموسكو تمر لأول مرة بازدهار دون أن تؤثر متانة العلاقات مع أحدهما على الأخرى كما كان يحدث فى الماضى، عندما كانت العلاقات القوية مع الاتحاد السوفيييتى تعنى قطيعة مع أمريكا أو العكس، كيف تحقق هذا الإنجاز؟
للحديث بقية إن شاء الله.