طريقة تعامل الإنسان مع الأرقام غريب، أحيانا يذكر أحدهم أمامك رقما ما فلا تهتم ولا تجد جدوى منه أنه مجرد رقم والسلام، وأحيانا يكون هذا الرقم حافلا بالمعانى وممتلئا بالدلائل، كما يقولون، ومن الأرقام الغريبة التى استوقفتنى أن الإنسان عاش فى مصر منذ 150 ألف سنة.
هذا الكلام قيل فى ملتقى «الصحارى والبحيرات فى عصور ما قبل التاريخ»، وذلك بمناسبة مرور 30 عاما على بدء أعمال البعثة الإيطالية فى واحة الفرافرة، وذلك بحضور الدكتور خالد العنانى، وزير الآثار، ورئيسة البعثة الإيطالية باربارا باريش، بمقر الوزارة بالزمالك.
بالطبع أعرف أن الإنسان عاش فى مصر منذ قديم الزمن، لكن مائة وخمسين ألف سنة رقم طويل وحافل بالحكايات، فكيف جاء هذا الإنسان إلى هذه الأرض؟ وما الذى فعله فى السنوات التى عاشها؟ هل سار فى الأرض من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها بحثا عن شىء؟ تقول الأبحاث لم تكن هناك حضارة، أى لم تكن هناك زراعة ولا رعى، كان يمشى فقط يصطاد ما يسد جوعه، ويصنع من الحجارة ما يحتاج إليه.
أفكر كيف كان شعور هذا الإنسان فى هذا الزمن البعيد فى مصر، هل شعر بالوحدة، وكيف تعامل مع امرأته، ومع أطفاله ومع الحيوانات الضارية التى كانت تطارده طوال الوقت، هل تمنى ألا يكون موجودا، هل فكر فى قتل نفسه، هل ضحك من ابنه الطفل الذى حاول الوقوف متكئا على شجرة فوقع، هل أصابه القلق لأنه ابنه البكر خرج ولم يعد، وحاول أن يطمئن أمه بنظرة حانية فلم يستطع، وكيف احتمل صراخها وبكاءها بعدما وجدوا هذا الابن البكر وقد تقاسمته الحيوانات؟
كيف تعامل مع الكارثة هل نظر إلى السماء وعاتبها، أم طلب منها النجدة، أم فكر من تلقاء نفسه أن يصنع فخاخ صيد لهذه الوحوش التى تريد أن تقتل أبناءه، هل تعلم المسؤولية حينها فأمسك يد الطفل الذى يحاول الوقوف وعلمه المشى، هل ترفق بامرأته التى هدها الحزن، هل ضجر من صيد الحيوانات وقرب بعضها إليه وتعلم مصادقتها، هل كان يعرف الحكايات؟
أعتقد أن الرجل لم يكن يعرف كيف يحكى، لكن الأم عرفت، حكت لأطفالها الجدد الذين ولدوا مصابين بالحزن دون أن يعرفوا السبب، عن أخيهم الأكبر الذى قاتل وحوش الغابة، وحمى الأسرة وانتصر، وطلب أطفالها المتحلقين حولها أن تعيد لهم الحكاية مرة أخرى، بينما كان أبوهم يفكر كيف يختفى مثل ابنه البكر.