النجاح الكبير الذى حققته زيارة السيسى لروسيا الأيام الماضية لا بد أن تدفعنا إلى التساؤل حول أسباب هذا النجاح المذهل، فلأول مرة توقع مصر اتفاقية شراكة استراتيجية شاملة مع روسيا مع المضى فى تنفيذ أربعة مفاعلات نووية للطاقة السلمية فى الضبعة بقرض روسى ميسر على خمسة وعشرين عاما وتحويل حلم توطين الصناعة الروسية الثقيلة إلى حقيقة من خلال أول منطقة صناعية روسية خارج أراضيها، واستعادة التدفق السياحى الروسى، وفى الوقت نفسه يحتفظ السيسى بعلاقات استثنائية مع واشنطن والرئيس ترامب ومع الدول الأوروبية الكبرى، خاصة ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، كيف فعلها السيسى دون غيره من الرؤساء المصريين السابقين؟ كيف نجح فى الإمساك بالتوازن الرهيف بين القوى الشرقية والغربية لمصلحة بلدنا دون أن يحسب على أى من المعسكرين؟
التاريخ المصرى القريب يقول إن الرئيس الراحل عبدالناصر توجه إلى الولايات المتحدة بطلبات للتعاون والدعم الصناعى والتقنى والمادى، لكن واشنطن أيام الحرب الباردة كان لها شروط مجحفة تفقد مصر بمقتضاها سيادتها واستقلالها وزعامتها الإقليمية ودورها الدولى، باعتبارها رأس حربة فى حركة التحرر الكبرى للدول المستعمرة والدول الساعية إلى الاستقلال والحلم بعالم يقوم على أسس عادلة، وعندما رفض عبدالناصر شروط واشنطن، كان عليه البحث عن شريك استراتيجى وداعم كبير، ولم يكن أمامه سوى الاتحاد السوفيتى الذى مد يد المساعدة والصداقة لمصر بالخبرات والسلاح والتدريب المستمر، لكن توجه عبدالناصر كان له ثمن غال دفعته بلدنا من خلال جره جرا للتورط فى صراعات خارجية وإقليمية عطلت مسيرته التنموية الباهرة، واستنزفت موارده وألحقت به الهزيمة تلو الأخرى
ومن رحم الانكسار، جاء الرئيس السادات حاملا شعلة النصر من خلال تحقيق أقصى استفادة من الدعم السوفيتى قبل أن يقرر خوض حرب التحرير وتحقيق النصر بعد أن يستقل بالإرادة والفكر الوطنيين، فكان قرار إزاحة الخبراء الروس قبل حرب أكتوبر حتى لا يحسب الانتصار لقوة كبرى فى العالم، وبالفعل تحقق الانتصار بأيدى وعقول وتضحيات مصرية خالصة وبفارق كبير فى التسليح والتدريب، لكن الشرخ حدث فى العلاقات المصرية ودول حلف وارسو، وكان السادات الداهية سياسيا عينه على المعسكر الغربى وهدفه عدم تكرار دفع مصر قسرا إلى حروب لا تريدها ولا تحدد هى مكانها أو توقيتها، فكان قراره بالانفتاح على واشنطن والغرب وتوقيع معاهدة السلام مع إسرائيل برعاية أمريكية، لأنه كان بالفعل يؤمن بأن 99 % من أوراق السياسة الدولية فى يد أمريكا، وهو كان يسعى إلى أن تكون حرب أكتوبر التى استعادت للمقاتل المصرى كرامته وعزته ومكانته، آخر الحروب، وبالفعل استطاع تحقيق هدفه، ولكن مع ثمن كبير دفعه من تجاهل الاتحاد السوفيتى وحلفائه فى حلف وارسو.
وبعد السادات جاء حسنى مبارك الذى حافظ على العلاقات الوثيقة مع الولايات المتحدة، وحاول بالفعل الانفتاح بقدر على روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتى وإعلان جمهورية روسيا الاتحادية، وكانت زيارته الأولى إلى روسيا الاتحادية عام 1997 ووقع خلالها عدة اتفاقيات تعاون، كما زار موسكو مرتين فى 2001 و2006 وتم التوقيع خلال الزيارتين على برامج طويلة الأمد للتعاون بين البلدين، كما كانت اتفاقية الشراكة الاستراتيجية قيد الحوار والتوقيع بين البلدين، إلا أن الأمور لم تشهد تفعيل الاتفاقات الموقعة، وظلت مصر مبارك تسير فى فلك السياسة الساداتية إجمالا، أى أنها كانت تشترى رضا واشنطن بالغالى والنفيس، وتخشى غدر ساكنى البيت الأبيض الذين يشهد الشرق الأوسط وأحداثه أنهم باعوا حلفاءهم الأقربين أكثر من مرة فى تقلبات سياسية مثيرة، لعل أشهرها شاه إيران السابق الذى كان يوصف بأنه شرطى واشنطن فى الشرق الأوسط.
وللحديث بقية.