محمد حبوشه

مصر والسودان.. وشائج القربى والمصير المشترك

الجمعة، 26 أكتوبر 2018 08:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
الثابت أن العلاقات بين مصر والسودان تتسم بتعدد الروافد، وذلك على النحو الذى توصف معه بأنها علاقات فريدة بين بلدين جارتين، بحيث تتسم بالخصوصية، إذ تتأسس تلك العلاقات على ثوابت الجغرافيا ووقائع التاريخ والروابط الثقافية والوشائج الاجتماعية، فضلا عن رابطة نهر النيل الذى يمثل شريانا تاجيا لأبناء وادى النيل، وتتجسد تلك الروافد فى مقولة "شعب واحد فى دولتين، كل منهما عمق استراتيجى للآخر".
 
وهذا الأمر يستلزم التعاون والتنسيق والشراكة الاستراتيجية لضرورات الأمن القومى بين البلدين الشقيقين، وفى اعتقادى أن مفهوم الأمن القومى لمصر والسودان مفهوم شامل، لأننا مثل الجسد الواحد لا يمكن أن ينفصل أو يتجزأ، ويبدو لى أن البلدين أمامهما فرص تاريخية الآن لبناء وحدة وشراكة وتعاون اقتصادى مثمر يحقق تطلعات البلدين ويلبى حاجة الشعبين فى تنمية حقيقية فيها تكامل وسد لاحتياج كل طرف، بحيث يمكن خلق حالة تكاملية نموذجية تأتى من خصوصية العلاقات التاريخية والمصير الواحد والمشترك بين الجارتين.
 
أما الأمر المهم والملحوظ الآن فى تطور العلاقات "المصرية – السودانية" هو وجود إرادة قوية من كلا الرئيسين "السيسى والبشير" لبناء علاقات قوية ومتينة تقوم على الثقة واليقين، وإنه لا بديل عن التعاون والتقارب لوحدة المصير والهدف وعوائد المصالح المشتركة، فضلا عن توافر مقوماتها بما يتمتع به البلدان من قدرات وثروات طبيعية يمكن تبادل الاستفادة منها، إضافة إلى كوادر بشرية يمكن توظيفها لخدمة الأهداف العليا والمصالح العليا للبلدى الشقيقين بفضل الروافد المشتركة.
 
ولعل ما يجعل من تلك الروافد كتلة صلبة لا تنال منها الأزمات أو المواقف والسياسات غير المواتية بما يحظى به الموقع والموضع الاستراتيجى للبلدين فى القارة السمراء "أفريقيا"، وفى نفس الوقت هنالك اتصال بالمنطقة العربية، حيث يدفعان وبقوة حال توافر الإرادة السياسية الصادقة نحو آفاق رحبة للتكامل الاقتصادى الإيجابى والبناء، لما فيه المصالح المشتركة للبلدين، وذلك بما يمتلكانه من موارد بشرية وطبيعية ضخمة كمّا ونوعا، وهما كفيلان بتحقيق الوحدة المنشودة.
 
فى واقع الأمر، وعلى الرغم مما تقدم من وشائج القربى والتاريخ المشترك والمصير الواحد لشعبى وادى النيل، إلا أنه من طبيعة الأمور ألا يخلو الأمر من رواسب تاريخية محدودة تجاوزها الزمن، وتضاءل تأثيرها على مر الزمان، بل قد ينعدم بتأثير قوة وفاعلية الروافد المشار إليها، ولكن للأسف يسعى البعض إلى إيقاظها وتضخيمها بين الحين والآخر بهدف الفرقة أو ضرب إسفين بين البلدين من شأنه تعكير الأجواء، بل ربما استغلالها لاتخاذ مواقف وسياسات سالبة لأغراض تتعارض ومصالح الشعبين والبلدين، وهو ما نلحظه فى توتر العلاقات بين البلدين على فترات متباعدة.
 
وعلى ضوء مجمل ما تقدم شهدت العلاقات المصرية السودانية حالة شبه مزمنة من التوتر، وظلت حالة الضبابية تراوح مكانها فى هذا الإطار عبر العقود الثلاثة الماضية، بل إنه يمكننا القول بأن حالة التوتر تصاعدت مع دأب السودان على إثارة، وربما افتعال العديد من القضايا والمشاكل التى يمكن أن نجد تفسيرا لها فى إطار التوجهات الإسلامية والنزعة الذاتية، حيث التمحور حول المصالح الذاتية للسودان دون مراعاة للمصالح المشتركة التى تتأسس على الروافد المتعددة المشار إليها، تلك المصالح التى تشكل أساسا لعلاقات صحية بين شعبى وادى النيل.
 
ويمكن حصر تلك القضايا الشائكة والمشاكل العالقة بين البلدين فى مجموعتين من القضايا: أهمها أو القضية الأولى والجوهرية تتعلق بقضية سد النهضة التى تبنى فيها السودان موقف إثيوبيا بشكل يصل إلى حدٍ وصفه البعض بالتواطؤ، حيث لم يراع الحقوق المائية التاريخية لمصر، أو القوانين الدولية المعنية بالأنهار أو الاتفاقات الموقعة بين دول النهر، أو التجارب الناجحة لدول متشاطئة على نهرواحد، أو حتى الأضرار التى ستصيب الاقتصاد المصرى جراء كل ذلك.
 
ثم تليها قضية حلايب وشلاتين، وهى قضية محسومة أصلا، ولا تستوجب أن تكون محل نزاع لإجراء حوار أو التوجه للتحكيم الدولى، ويدرك الطرف السودانى ذلك جيدا، إذ إنه يعى تماما لو طبق قواعد القانون الدولى بشأن الحدود والاتفاقات الموقعة بصددها وبشكل سليم لتأكد أن دعواه بسودانية مثلث حلايب تفتقر لأى أساس بحكم الثوابت التاريخية التى تحسم تلك القضية، ثم تجىء قضية تسليم "سواكن" لتركيا، وهى قضية تمس الأمن القومى المصرى، والعربى فى منطقة البحر الأحمر بالأساس، ولا يمكن ترحليها للمستقبل.
 
وتبدو الخطورة فى قضية "سواكن" فى سيطرة تركيا عليها هو إقامة قاعدة عسكرية فى هذه الجزيرة، وفى هذا التوقيت، خاصة إذا أخذنا فى الاعتبار توجهات المحور الثلاثى "تركيا – قطر – أمريكا"، والذى يستهدف المصالح المصرية بالتعاون مع السودان، وهو بهذا يدفع نحو تكريس سياسة المحاور المتصادمة التى قد لا تقتصر فقط على الصراع والتصادم السياسى، بل ربما قد تدفع إلى نظيره العسكرى، خاصة أنه - أى النظام القائم فى السودان - ينتمى لمحور يضم قوى إقليمية من خارج المنطقة العربية والقارة الأفريقية من ذوى الأطماع التوسعية والهيمنة والسيطرة على نحو يستهدف النيل إن لم يكن طمس الهوية العربية وتغيير خريطة المنطقة.
 
ومن هنا يبدو لى أن زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسى الحالية للسودان تأتى فى موعدها بحيث تكسر تلك الحلقة المفرغة لحالة التوتر المتنامى والمتصاعد فى العلاقات بين البلدين، والتى قد تصل إلى حالة التدهور، وبالتالى تستوجب تلك العلاقات مراجعة شاملة مع النظام القائم فى السودان، وأن يكون ذلك فى إطار تفعيل العمل بالوثيقة الاستراتيجية التى وقعت من جانب الرئيسين السيسى والبشير فى أكتوبر 2016، والتى تضمنت تناول العلاقات بين البلدين ليس فقط فى الإطار الثنائى، بل أيضا فى الإطار الإقليمى، مع مراعاة تجنب الحملات الإعلامية السالبة التى قد تترك آثارا ورواسب غير مواتية للعلاقات الشعبية بين البلدين، وذلك أيضا بحسب نتائج زيارة الرئيس فى يوليو الماضى أى قبل ثلاثة أشهر من الآن. 
 
جميعنا يتمنى لو أن حلم اليقظة بوحدة وادى النيل الذى عشناه خلال زيارة الرئيس السودانى عمر البشير الأخيرة إلى مصر، قد أصبح بالفعل هدفاً مشتركاً للشعبين، اللذين تربطهما علاقة أزلية أبقى وأقوى من كل الأنظمة التى حكمت البلدين، لأن حلم وادى النيل هو الحقيقة الخالدة التى يتمناها الشعبان المصرى والسودانى، وهو المخرج الصحيح للبلدين من كل المشكلات التى يعانيها الشعبين، والحقيقة الجغرافية والإنسانية التى تضمن لهما مستقبلاً واعداً ومكانة فائقة داخل حوض النيل وأفريقيا.
 
وجميعنا أيضا يعرف بالفعل لو أن السودان ومصر أصبحتا يداً واحدة لتغيرت الأمور كثيراً فى البلدين، لأن قوة مصر تصب فى قوة السودان، والعكس صحيح، ولأن الشعبين فى الشمال وفى الجنوب يرتبطان منذ الأزل بعلاقات مصيرية أساسها النيل جعلت منهما شعباً واحداً، لم تنجح الخلافات السياسية ومحاولات الوقيعة فى أن تباعد بينهما أو تمزق أواصر القربى ووحدة المصير والتاريخ المشترك، برغم أنهما أصبحا بالفعل 3 دول، ويمكن لا قدر الله أن يكونا أكثر من ذلك لو لم يفق الجميع لأهمية وحدة وادى النيل، حلم اليقظة الأبدى الذى لا نزال نعيشه رغم كل ما جرى!.
 
وحسنا أن اتفق الرئيسان "السيسى والبشير" من جديد على أهمية إزاحة الشوائب والقضايا العالقة من طريق علاقات البلدين كى تبقى نقية ونظيفة مثل نقاء الشعبين، خاصة أن الجانبين يملكان الآن - أكثر من أى وقت مضى - آلية واضحة تتمثل فى الاجتماعات الرباعية التى تضم وزيرى خارجية البلدين ورئيسى جهازى المخابرات لوضع الأمور فى نصابها الصحيح، بحيث لا تصل علاقات البلدين إلى أى منحدر خطر لاقدر الله، الأمر الذى يتيح لأطراف خارجية أن تحاول استثمار الموقف لمصلحتها على حساب مصالح الشعبين وتاريخهما المشترك.
 
وأعيد وأكرر بكل الصدق إن الشيء الوحيد الذى يحصن علاقات مصر والسودان الآن هو توافر الإرادة السياسية فى البلدين وبين الرئيسين "السيسى والبشير"، وأنهما بالفعل خلال الزيارة الحالية استطعا استشراف آفاق أوسع للتعاون والتكامل والتنسيق المشترك، خاصة أن بعض الحلول المقترحة قد تم تجريبها أكثر من مرة، وظهر بوضوح أسباب قصورها، وربما يكون أهم الدروس المستفادة عدم تكرار هذه الأخطاء مرة أخرى، وإقامة علاقات البلدين على أسس متكافئة من المصالح المشتركة.
 
فقد شهدت العلاقات "السودانية – المصرية" تقدماً خلال السنوات القليلة الماضية فى الجوانب الاقتصادية والاستثمارية، وتزايد تدفق رجال الأعمال بين البلدين، وهو الأمر الذى نتجت عنه زيادة التبادل التجارى، وضاعف عدد الشركات المصرية فى السودان والعكس، وهو ماعسكته جلسات اللجنة المشتركة خلال الأيام الماضية بتوقيع أكثر من 10 مذكرات تفاهم بين مصر والسودان؛ فى مجالات: الكهرباء، السكك الحديدية، الطرق البرية، والأمن الغذائى، وصولاً للتكامل المنشود بين البلدين.
 
وشيئا من هذا القبيل أيضا بدا واضحا جليا عبر افتتاح الرئيسين أمس على هامش القمة معرض "إيجى ميد برو" للمنتجات الطبية، فى قاعة الصداقة بالخرطوم، وهو ما يمثل خطوة جديدة على طريق التبادل التجارى بين مصر والسودان، ودعماً للشراكة التجارية والاستثمارية والاقتصادية بين البلدين، حيث شارك به كبار المصنعين والمصدرين من القطاعات ذات العلاقة بالمنتجات الطبية، كالأدوية، ومستحضرات التجميل، والمكملات الغذائية، والمستلزمات الطبية، وأيضا مقدمى الخدمات الصحية.
 
كما شهد المعرض عقد لقاءات ثنائية بين العارضين والمستوردين السودانيين، بالإضافة إلى عقد ورش عمل متخصصة على هامش الملتقى تم من خلالها بحث الطرق التى تواكب الحركة العالمية فى تصدير أحدث المنتجات بقطاعات المنتجات الطبية والأدوية، وعروض مقدمى الخدمات الصحية، وذلك فى حضور ممثلى اتحاد الصناعات والغرف الصناعية المتخصصة المصرية، ومجلس الأعمال المصرى السودانى، ووزارتا الصحة والصناعة بمصر.
 
خلاصة القول أنه بالمقارنة بالأعوام الماضية فقد حدثت قفزات كبيرة فى حجم التبادل التجارى بين مصر والسودان، خاصة فى السنوات الثلاث الأخيرة، وفيما يتعلق بالصادرات المصرية إلى السودان، فإن هناك عدداً من الصادرات المصرية شهدت، ولا تزال تشهد، ارتفاعاً فى قيمتها، وفى مقدمتها حديد التسليح والأثاث المعدنى والسلع الغذائية ومصنوعات اللدائن والمنتجات البترولية والأدوية ومصنوعات من النحاس. 
 
وفيما يتعلق بحركة الواردات المصرية من السودان، فقد سجلت زيادات كبيرة، وتتركز واردات مصر من السودان فى القطن الخام والسمسم والبذور الزيتية، وتستأثر مصر بالمركز الثالث بين أهم الدول العربية المستثمرة فى السودان، بينما يحتل السودان المركز 13 بين أهم الدول العربية المستثمرة فى مصر، وتمثلت الاستثمارات المصرية فى السودان فى مجالات الصناعة والخدمات والقطاع الزراعى والمشاريع المشتركة بين البلدين فى مجالات النقل والطرق والرى.
 
ويبدو واضحا فى النهاية من التزامات الرئيسين عبد الفتاح السيسى وعمر البشير المتبادلة فى لقاء الخرطوم الأخير، أن مصر والسودان دخلا بالفعل مرحلة جديدة فى شكل وملامح علاقات البلدين، أساسها المصارحة والمكاشفة ودفع العلاقات الثنائية إلى آفاق ترقى إلى طموحات الشعبين الشقيقين، اللذين تربطهما أواصر أزلية وجيرة أخوية من عمر الخليقة ومصير مشترك يوثقه ارتباط مصالحهما بنهر النيل العظيم شريان الحياة وهمزة الوصل بين الشعبين الشقيقين، وهو مايشير إلى التوجه المصرى من جديد نحو القارة الأفريقية على أساس الشراكة الاستراتيجية التى تضمن الأمن والسلام فى المستقبل.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة