أحمد المالكى

ما ذلَّت لغة شعب إلا ذلّ ولا انحطت إلا كان أمره فى ذهاب وإدبار

الأحد، 28 أكتوبر 2018 08:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
يُحزننى كثيرًا أن أجد كثيرًا من الناس اليوم منصرفين عن التحدث بلغتهم العربية الجميلة إلى غيرها من اللغات الأجنبية مع التأكيد على أهميتها أيضًا، لكن ليس على حساب لغتهم الأصلية، بل العجيب أن بعض الناس يحرصون على تعليم أولادهم اللغات الأجنبية، ولا يحرصون على تعليمهم لغة قومهم كحرصهم على تلك.
والبحث فى سبب غياب اللغة عن تعليم الناس اليوم يطول جدًا، لكن ربما ترجع الأسباب إلى شىء مهم وهو عدم التسويق الجيد للغة العربية، كما سوّق الآخرون لغاتهم.
إننى أستطيع القول: إن من أوجب الواجبات على العرب الآن الاهتمام بلغتهم العربية اهتمامًا بالغًا تعلُّمًا واستخدامًا وتذوّقًّا واعتزازًا بها، فإن ذلك أصدق دليلٍ على الهوية والانتماء، فوجود أمتنا العربية كأمة قائمة ذات شخصية متميزة ومؤثرة فى الأمم الأخرى، وذات تقاليد وأعراف وطبائع سلوكية مرتبط تمام الارتباط ببقاء لغة هذه الأمة، بل لا أكون مبالغًا إذا قلت: إن وجودها حياة أو عدمًا مرتهن بوجود هذه اللغة أوموتها، وحسب ازدهار اللغة وضعفها يكون حال الأمة.
فعندما تفقد أى أمة لغتها الأصلية وتهيمن عليها لغة أخرى غير لغتها، فإننا سنرى أمة مغايرة فى كل شىء، فى كيانها وخصائصها، تغايرًا يختلف عن تلك الأمة الأولى، فكلاهما أمتان مختلفتان وإن كانتا فى الأصل نفس الأمة السابقة فى اسمها ومكانها الجغرافى، فإن اللغة لها دلالة وسمة للأمة الناطقة بها، بل كما قيل: «إن لغة الأمة دليل نفسيتها وصور عقليتها، بل هى أسارير الوجه فى كيانها الاجتماعى الحاضر، وفى تطورها التاريخى الغابر، لأن وراء كل لفظة فى المعجم معنىً شعرت به الأمة شعورا عاما، دعاها إلى الإعراب عنه بلفظ خاص، فوقع ذلك اللفظ فى نفوس جمهورها موقع الرضى، وكان بذلك من أهل الحياة، وما معجم اللغة إلا مجموعة من المعانى التى احتاجت الأمة إلى التعبير عنها، فاختارت لكل معنى لفظاً يدل على الجهة التى نظرت الأمة منها إلى ذلك المعنى عندما سمته باللفظ الذى اصطلحت عليه، فلغة الأمة تتضمن تاريخ أساليب التفكير عندها من أبسط حالاته إلى أرقاها، يعلم ذلك البصير فى أبنية اللغة وتلازمها ومن له ذوق دقيق فى ترتيب تسلسلها الاشتقاقى».
يقول الرافعى فى كتابه الرائع «وحى القلم» «3/27»: «أما اللغة فهى صورة وجود الأمة بأفكارها ومعانيها وحقائق نفوسها، وجودًا متميزًا قائمًا بخصائصه، فهى قومية الفكر، تتحد بها الأمة فى صور التفكير وأساليب أخذ المعنى من المادة، والدقة فى تركيب اللغة دليل على دقة الملكات فى أهلها، وعمقها هو عمق الروح ودليل الحسن على ميل الأمة إلى التفكير والبحث فى الأسباب والعلل، وكثرة مشتقاتها برهان على نزعة الحرية وطماحها، فإن روح الاستعباد ضيق لا يتسع، ودأبه لزوم الكلمة والكلمات القليلة.
وإذا كانت اللغة بهذه المنزلة، وكانت أمتها حريصة عليها، ناهضة بها، متسعة فيها، مكبرة شأنها، فما يأتى ذلك إلا من روح التسلط فى شعبها والمطابقة بين طبيعته وعمل طبيعته، وكونه سيد أمره، ومحقق وجوده، ومستعمل قوته، والآخذ بحقه، فأما إذا كان منه التراخى والإهمال وترك اللغة للطبيعة السوقية، وإصغار أمرها، وتهوين خطرها، وإيثار غيرها بالحب والإكبار، فهذا شعب خادم لا مخدوم، تابع لا متبوع، ضعيف عن تكاليف السيادة، لا يطيق أن يحمل عظمة ميراثه، مجتزئ ببعض حقه، مكتفٍ بضرورات العيش، يوضع لحكمه القانون الذى أكثره للحرمان وأقله للفائدة التى هى كالحرمان.
لا جرم كانت لغة الأمة هى الهدف الأول للمستعمرين، فلن يتحول الشعب أول ما يتحول إلا من لغته، إذ يكون منشأ التحول من أفكاره وعواطفه وآماله، وهو إذا انقطع من نسب لغته انقطع من نسب ماضيه، ورجعت قوميته صورة محفوظة فى التاريخ، لا صورة محققة فى وجوده، فليس كاللغة نسب للعاطفة والفكرة حتى أن أبناء الأب الواحد لو اختلفت ألسنتهم فنشأ منهم ناشئ على لغة، ونشأ الثانى على أخرى، والثالث على لغة ثالثة، لكانوا فى العاطفة كأبناء ثلاثة آباء.
وما ذلَّت لغة شعب إلا ذلّ، ولا انحطت إلا كان أمره فى ذهاب وإدبار، ومن هذا يفرض الأجنبى المستعمر لغته فرضًا على الأمة المستعمرة، ويركبهم بها، ويشعرهم عظمته فيها، ويستلحقهم من ناحيتها، فيحكم عليهم أحكامًا ثلاثة فى عمل واحد: أما الأول فحبس لغتهم فى لغته سجنًا مؤبدًا، وأما الثانى فالحكم على ماضيهم بالقتل محوًا ونسيانًا، وأما الثالث فتقييد مستقبلهم فى الأغلال التى يصنعها، فأمرهم من بعدها لأمره تبع».
إنّ أى محاولة للقضاء على اللغة العربية أو النيل منها، على أى وجه كان، سينتج فى آخر الأمر القضاء على الهوية، بل القضاء المبرم والهدم الحقيقى لأمتنا العربية، فبقاؤها ببقاء لغتها.
يتبع






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة