عندما نتحدث عن ألمانيا وموقعها فى العالم وفى مقدمة الدول الصناعية والديمقراطية فى العالم، هناك الكثير مما يمكن وربما يجب أن نتعلم منه ونحن نتحدث عن التنمية والتقدم، ونتعلم من خلال التعامل بصدق وعمق مع هذه التجربة،
فى عالم تحكمه المصالح أولا وليس غيرها، وبالطبع فإننا ونحن ننظر إلى ألمانيا زعيمة العالم الأوروبى، فهى أيضا ترى فى مصر فرصة لتنفيذ أفكارها واستثماراتها وتحقيق عوائد، وتطبيق أبحاثها والتعاون فى مجالات التدريب، وهناك الكثير من الدروس التى نحتاج إلى استيعابها وتعلمها، ونحن نتعامل مع التجربة الألمانية العامة السياسية أو الخاصة المتعلقة بالتقدم والتنمية بمناسبة الزيارات المستمرة والعلاقات المتعددة بين مصر وألمانيا.
وربما تكون واحدة من الشركات التى طغى اسمها على التجربة المصرية الألمانية تأتى شركة سيمنز، وهى واحدة من أكبر الشركات الألمانية لدرجة أن هناك مقولة سادت لفترة أن واحدا من كل خمسة فى ألمانيا يعمل فى «سيمنز»، وهى مثال لسقوط الحواجز بين القطاع الخاص والدولة فيما يتعلق بالاستثمار والصناعة، حيث تعرف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أو أى مسؤول أن حصول شركة بحجم سيمنز على اتفاقات وفرص استثمار فى مصر أو أى مكان فى العالم فهذا يضمن لألمانيا عوائد ووظائف وسمعة صناعية.
وحسبما أعلن جوزيف كايسر، المدير التنفيذى ورئيس شركة سيمنز، فإن مصر شريكنا الثانى، حيث إن الأمر يتعلق بتطوير بنية تحتية ولا يوجد مكان فى العالم يتم فيه تطوير البنية التحتية بهذه السرعة، وهناك 1200 مهندس مصرى يتم تدريبهم فى ألمانيا.
قبل ثلاث سنوات تقريبا فى ديسمبر 2015، كنت أحد الحضور فى المؤتمر السنوى لشركة سيمنز العالمية فى ميونيخ، وكان عنوان المؤتمر هو Innovation at Siemens أى «الابتكار فى سيمنز»، وعقد المؤتمر فى متحف ميونخ أحد أهم المتاحف الصناعية الذى يتضمن تاريخا فعليا للصناعة والابتكار وشهادة على ما قدمه العقل البشرى للبشرية من تكنولوجيا وابتكارات حولت شكل العالم إلى الصناعة ثم إلى التكنولوجيا الفائقة.
ويومها كان عنوان المؤتمر هو «الابتكار»، حيث عرض رؤساء القطاعات المختلفة الابتكارات التى توصلت إليها الشركة فيما يتعلق بالحلول التكنولوجية للمشكلات التى تواجه الصناعة والطاقة، ويومها كان الحديث ليس عما تم تحقيقه وإنما عما يجرى العمل فيه ويشبه الأحلام التكنولوجية، ومنه أبحاث تجريها الشركة لنقل وتخزين الطاقة المتجددة وهى طاقة ثابتة وتحويلها إلى طاقة مترددة يسهل نقلها عبر آلاف الأميال بفاقد أقل، وفى حال تطوير تكنولوجيا نقل الطاقة يمكن لأوروبا أن تستورد الطاقة النظيفة من المحطات الشمسية أو الرياح.
ويومها أعلن جوزيف كايسر، الرئيس التنفيذى ورئيس مجلس إدارة سيمنس، أن الشركة تخصص 4.8 مليار يورو لإنفاقها على البحث والتطوير والابتكار خلال عام 2016، بزيادة 300 مليون يورو عن العام السابق.
أدركنا أن الابتكار والتطوير والبحث هو أساس نجاح وتقدم الشركة وألمانيا نفسها، لأن هذه هى طريقة التفكير التى تصنع التقدم، وكان تخصيص الجزء الأكبر من مليارات التطوير على مجالات الرقمنة Digitization والميكنة الآلية Automation، بالإضافة إلى أنظمة توليد الطاقة الكهربائية غير المركزية، أو المتجددة كالطاقة الشمسية والرياح، التى ترى الشركة أنها تمثل مستقبل النمو فى أعمال الشركة.
ويدرك المتابع لمسيرة شركة مثل سيمنز أن نجاحها ومستقبلها يرتبط بشكل جذرى بقوة الابتكار، وكما قال رئيس الشركة يومها «ابتكار وحماس موظفيها من ذوى الخبرات لتقديم تقنيات وابتكارات جديدة للعالم هو حجر الأساس فى نجاح الشركة».
لقد بدأ اختيار الشركة الألمانية لمتحف ميونيخ، من أجل عقد مؤتمر الابتكار فى 2015، مقصودا ودالا على مدى القناعة بأن التقدم هو سلسلة من البناء على ما بناه السابقون، واعتراف بأفضال آلاف العقول التى ساهمت فى بناء نهضة وتقدم ألمانيا.
رئيس الشركة تحدث فى برلين أمس أمام قمة الاستثمار للشركات الألمانية وأعضاء مبادرة الشراكة مع أفريقيا، وأشار إلى تدريب 1200 مهندس مصرى فى ألمانيا، وهو ما أعادنى لقوله فى ميونيخ قبل ثلاث سنوات أن «التعاون مع مصر يتجاوز الكسب أو جمع المال إلى ربط الصناعة بالمجتمع والتدريب، وتلبية الحاجات الأساسية للمجتمع»، يومها كانت مصر قد عقدت اتفاقا من شركة سيمنز لإنشاء محطات التوليد عملاقة أنهت عجز الطاقة فى مصر، وأيضا إنشاء مصنع لريش محطات توليد الكهرباء بالرياح، ومحطات طاقة شمسية ضخمة.
وبالفعل أثناء مؤتمر الابتكار 2015 استعرض عشرات من مهندسى الشركة ابتكاراتهم وأبحاثهم لتوفير الحلول التقنية للتقدم، ومنها برامج قدمتها الشركة للمترو فى بريطانيا لتخفيض مدة التقاطر وتنظيم تقاطعات الخطوط بنسب أخطاء لا تذكر، وقال جوزيف كايسر، رئيس الشركة: إن سيمنز تدرك الحاجة الماسة إلى تقديم أفكار وتقنيات جديدة للعالم، بما يؤكد حرص الشركة على خلق مناخ وبيئة جديدة داعمة للعقول الواعدة، سواء كانت هذه العقول من داخل سيمنز أو من خارجها، بهدف السماح بتنفيذ الأفكار المبتكرة وتحويلها إلى اكتشافات ومشروعات جديدة بسرعة وكفاءة.
ربما يكون هذا هو جوهر ما نحتاج لتعلمه، وأن تتعلمه الشركات المصرية العامة والخاصة، وهو دعم الابتكار والبحث والتطوير، وأن ما تنفقه الشركات للأبحاث والابتكارات يعود عليها بأرباح مضاعفة، لأنه يصنع مستقبلا.
نحن أمام شركة تمثل أحد أعصاب الاقتصاد، مع غيرها، وتمثل جزءا من درس تحتاج الدول التى تريد النهوض أن تتعلم منه سياسيا وعلميا وتدريبا.
أما عن دروس السياسة الألمانية فهى أيضا كثيرة، وتحتاج إلى تأمل واستيعاب فى عالم يتغير بسرعة اللمس.