تجاوز المائة عام، مثلما تجاوزها سابقا فنان مصر الأكبر «راغب عياد» وفى صمت رحل، مثلما رحل «راغب»، لا أضع هنا الفنانين فى مقارنة أو حتى مقاربة، فلكل فنان منهما شخصية وإسهام وقدر وقيمة تختلف عن الآخر، لكن المفارقة هنا حاضرة، فكلامهما صاحب عمر مديد، وصمت مريب، وموت وحيد.
مات رائد فن الباستيل فى مصر، الفنان التشكيلى الكبير «محمد صبرى»، وهو أمر لم يفاجئ أحدا، فالرجل تجاوز المائة سنة وقد صنع فيها اسما وشخصية وأسلوبا ومدرسة، لكن يشاء القدر أن يعرى هذا الموت، الكثيرون الذين هرولوا نحو إصدار البيانات وديباجة كلمات المديح والحسرة، رغبة منهم فى ظهور مؤقت على شاشات التليفزيون وزرق الجرائد، فى حين أن الرجل كان يعيش وسطنا وحيدا، غارقا فى مواعيد الأدوية، وسباق الدخول إلى الحمام، وحساب الدقائق والثوانى، مفتقدا من يسأل عنه، أو يطمئن عليه أو يحيى ذكراه وهو حى بيننا، ولو كان هؤلاء يدركون فعلا حجم هذا الفنان وقيمته، لسارعوا إلى تكريمه قبل أن يسارعوا إلى نعيه، لكنهم للأسف لا يعرفون من موت فنان عظيم سوى أنه مناسبة سعيدة لإطلاق نعى مجانى تتسارع الجرائد على نشره.
هؤلاء لا يفعلون شيئا سوى التظاهر بالعمل والتظاهر بالقيمة والتظاهر بالتاثر، هؤلاء هم محترفو «البرومبيق فى الشرمرق»، لا تسلنى عن معنى هذه الكلمة، فأنا نفسى كما قلت سابقا لا أعلم لها معنى، تماما مثل الكثير من الأشياء التى تمر أمامنا دون أن نفهمها، والكثير من الأشخاص الذين نقابلهم دون أن نعرف لماذا هم هنا ومتى؟ فللأسف كما قلت فى مقال سابق نشر بعنوان «محترفو الولا حاجة» فإن العالم لم يخترع بعد جهازًا أو مؤسسة لمكافحة «الغش الإنسانى»، لكنه وضع معايير مناسبة لضمان استئصاله من منابعه، لكن الأمر يختلف تمامًا فى تلك المجتمعات التى اتخذت من دنياها هزوًا، وأصبحت السخرية فيها بديلا عن الحياة الحقيقية، وتسيد فن الكاريكاتير على كل الفنون حتى صارت نصف الشخصيات التى تقابلها يوميا «كاركترات» هاربة من إطار لوحة كاريكاتورية. آباؤنا رأوا هذه الظاهرة قديما وتندروا عليها، لكنهم لم يدركوا أن السماح بوجودها، حتى ولو كان على سبيل السخرية، سيضاعف من حضورها، ويجعلها قاعدة عامة يتبعها الجميع.. آباؤنا أيضا أخبرونا عن تلك الفئة من الناس التى لا تحترف شيئا سوى «الولا حاجة»، فيتحولون بين ليلة وضحاها إلى «حاجة» تكون المحصلة «ولا حاجة»، لأن القاعدة الرياضية تقول إن أى شىء مقسوم على صفر يساوى صفرًا، وأى شىء مضروب فى صفر هو صفر أيضا.
محترفو «الولا حاجة» تكاثروا، تناثروا، وفى غياب الرؤية يسهل الخداع، رجل لا يرى، يصاحب رجلًا لا يفعل، والنتيجة هى شيوع الإظلام وتعطل «المراكب السايرة»، لكن، والحق يقال، هؤلاء الذين «لا يفعلون» لا يفعلون تمامًا، وإنما يمثلون أنهم يفعلون، يؤدون نفس الحركات، يتحدثون بنفس المصطلحات، يقولون كلاما يبدو مرتبا، ويصدرون نفس البيانات وكأنهم يعرفون «محمد صبرى».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة