من الأسباب الرئيسية التى جعلت العلاقات المصرية الألمانية تشهد تطورات كبيرة خلال السنوات الأربعة الماضية، أن مصر بلا شك هى كبرى الدول العربية، من حيث عدد السكان والمكانة والموقع، ومن هنا ينظر إليها الأوروبيون دائماً كمفتاح رئيسى لاستقرار وأمن منطقة الشرق الأوسط، ولعل الموقع الاستراتيجى والدور الريادى الذى تلعبه مصر فى العالم العربى يساعد على نموها وتطورها، وهو الذى ربما ساهم فى رغبة البلدين لبناء علاقات وثيقة ومتنوعة، فضلا عن حرص الحكومة الاتحادية فى ألمانيا لدعم الجهود المصرية فى بناء دولة حديثة وديمقراطية، ومن جانبها تحرص القاهرة على تنويع التعاون مع دول كبرى مثل ألمانيا، حيث ترى مصر فى ألمانيا شريكا كبيرا وهاما فى أوروبا يعمل معها لتحقيق الأمن والاستقرار الإقليمى والدولى ومكافحة الإرهاب.
من هنا تأتى زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسى الأخيرة كضرورة حتمية إلى تحول علاقة الصداقة القوية بين البلدين إلى شراكة استراتيجية يتبادل فيها الطرفان مشاعر الاحترام والثقة، رغم اختلاف الثقافات والأديان علما بأنه فى السنوات الأخيرة تربط بين البلدين اهتمامات ومصالح مشتركة ثنائياً ودولياً منها عملية السلام بالشرق الأوسط، والعلاقات بين مصر والاتحاد الأوروبى والتعاون الأورومتوسطى، فى أثناء الزيارة الأولى التى قام بها الرئيس السيسى لألمانيا فى الثانى من 2 يونيو 2015 تم تعزيز التعاون فى مختلف المجالات، خصوصا الاقتصادية والعسكرية والأمنية، وقد نجحت زيارات الرئيس ولقاءاته المتعددة مع المستشارة أنجيلا ميركل خلال السنوات الثلاثة الماضية فى توثيق العلاقات بين البلدين، وفى جذب الاستثمارات والسياحة الألمانية لدعم الاقتصاد المصرى، خاصة زيارته فى 11 يونيو 2017 للمشاركة فى القمة التى نظمتها ألمانيا لمجموعة العشرين للشراكة مع أفريقيا، تحت شعار "الاستثمار فى مستقبل مشترك" والمشاركة فى الجلسة الافتتاحية للمنتدى الاقتصادى المصرى الألمانى.
وقبل يومين عقد الرئيس مباحثات ثنائية مع المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل وعدد من الوزراء الألمان، وبحث الجانبان القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك، خاصة مكافحة الإرهاب، والتطورات الراهنة، فضلاً عن بحث سبل التوصل إلى تسويات سياسية للأزمات القائمة بالمنطقة، خاصة بالنسبة للأزمة الليبية، وقبيل هذا اللقاء كانت المستشارة الألمانية ميركل قامت بزيارة للقاهرة فى مارس 2017، وكانت المباحثات المصرية - الألمانية ناجحة فيما يخص العلاقات الثنائية، والتطورات التى شهدتها على جميع الأصعدة الاقتصادية والعسكرية والثقافية، كما تم التشاور حول الملفات والقضايا الإقليمية والدولية التى تهم القاهرة وبرلين، وعلى رأسها مكافحة الإرهاب والهجرة غير المشروعة، والأوضاع فى كل من سوريا وليبيا والعراق واليمن وغيرها من دول الشرق الأوسط، وتفاقم ظاهرتى الإرهاب والهجرة غير المشروعة، وهو ما يفرض ضرورة السعى المشترك من أجل إيجاد حلول سلمية للنزاعات فى المنطقة.
ومن ثم تأتى زيارة الرئيس التى انتهت قبل يومين لتكتسب أهمية بالغة تستمدها من طبيعة الزيارة نفسها، ثم من المرحلة التى تطورت إليها العلاقات المصرية الألمانية، وكذلك القضايا الثنائية والإقليمية التى طرحت على جدول أعمال الزيارة بشقيها الثنائى والجماعى، فضلاً عن أن هذا هو اللقاء الأول بين الجانبين بعد بدء الولاية الرابعة للسيدة ميركل فى مارس 2018 كمستشارة لألمانيا، وبدء الفترة الرئاسية الثانية للرئيس عبد الفتاح السيسى فى يونيه 2018، لذا تضمنت الزيارة شقين: الأول هو زيارة "دولة" رئيس مصر إلى ألمانيا بدعوة من المستشارة الألمانية، وزيارة الدولة هى أعلى مستويات الزيارات الرئاسية فى العلاقات الدولية،
أما الشق الثانى فيتمثل فى المشاركة بأعمال القمة المصغرة للقادة الأفارقة رؤساء الدول والحكومات أعضاء المبادرة الألمانية للشراكة مع إفريقيا فى إطار مجموعة العشرين، وقد جاءت دعوة ميركل تقديراً لمكانة مصر وأهمية دورها فى أفريقيا، حيث ألقى الرئيس السيسى كلمة خلال أعمال القمة المصغرة تناولت رؤية مصر فى دفع وتعزيز جهود التنمية فى إفريقيا، خاصة أن مصر سترأس الاتحاد الأفريقى العام المقبل 2019.
وقد استعرض الرئيس فى كلمته خلال تلك القمة سبل تعزيز العلاقات الثنائية على مختلف الأصعدة، وتبادل الرؤى حول القضايا ذات الاهتمام المشترك، حيث أكد عزمه على تعميق وتطوير آفاق الشراكة بين البلدين، فى ضوء المكانة الهامة التى تحتلها ألمانيا دوليًا وداخل الاتحاد الأوروبى، والدور المحورى الذى تقوم به مصر لتحقيق الاستقرار الإقليمى ومواجهة التحديات التى تشهدها منطقة الشرق الأوسط، وقد أشاد السيسى بما تشهده العلاقات الثنائية من تطور فى شتى المجالات، خاصة الاقتصادية والتجارية والتنموية، وأعرب عن التقدير الشعبى الكامل لمواقف ألمانيا المساندة لمصر فى حربها على الإرهاب وقوى التطرف والعنف، حيث أكد خلال المباحثات على أهمية تضافر الجهود الدولية لوضع حد لخطر الإرهاب، وما يمثله من تهديد لشعوب العالم، واتفق مع نظيرته الألمانية كذلك على أهمية تعزيز وتطوير التعاون الأمنى والعسكرى المشترك، بما يمكن الدولة المصرية من التعامل مع مختلف التهديدات.
كما تطرق الرئيس فى كلمته إلى بيان العبء الكبير الذى تتحمله مصر فى هذا المجال، انطلاقاً من دورها وموقعها ورسالتها، عبر استضافتها لملايين اللاجئين، كما تناولتُ الكلمة أيضا النجاحات الفائقة التى حققتها مصر فى وقف تدفقات الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا منذ سبتمبر 2016 وحتى الآن، وأشار إلى خطورة التركيز على الحلول الأمنية لهذه القضية، دون معالجة جذور المشكلة الاقتصادية والتنموية فى دول المصدر، لأنه من وجهة نظره لن يؤدى إلى تحقيق النتائج المنشودة ولن يُفضى سوى إلى نتائج قصيرة الأجل.
وفى هذا الإطار، تم تبادل الرؤى بين "السيسى وميركل" حول آخر تطورات الأزمات والصراعات التى تشهدها منطقة الشرق الأوسط، والمساعى القائمة لإيجاد حلول سلمية لها، واتفق الطرفان على ضرورة بذل المجتمع الدولى لمزيد من الجهود لوضع حد لتلك الصراعات، بما يحفظ مفهوم الدولة الوطنية ويحقق الاستقرار لشعوب المنطقة، كما تم التشاور بينهما حول سبل دفع عملية السلام فى الشرق الأوسط بما يحقق تسوية دائمة وعادلة، مستندة إلى القرارات والمرجعيات الدولية ذات الصلة.
على المستوى الاقتصادى شهدت المباحثات بى الرئيس والمستشار الألمانية على الصعيد الثنائى سبل تعزيز التبادل التجارى بين البلدين، وزيادة تدفق الاستثمارات الألمانية إلى مصر، بما يعكس التطور الملحوظ الذى يشهده التعاون الاقتصادى بين البلدين خلال الفترة الأخيرة، وفى هذا السياق، أكد الرئيس على تقدير الدعم الألمانى لبرنامج الإصلاح الاقتصادى الطموح الذى تنتهجه مصر، وكذا برنامج التعاون الإنمائى بين البلدين، الذى يسهم فى دعم الاقتصاد المصرى خاصة فى مجالات البنية التحتية والتعليم الفنى والتدريب المهني، وقد ناقشا سبل تكثيف وتنويع هذا التعاون بما يحقق الآمال المرجوة منه.
كما أعرب الرئيس عن سعادته لاستعادة السياحة الألمانية إلى مصر لمستواها المعهود، حاملاً رسالة مودة وصداقة من الشعب المصرى للشعب الألمانى الذى نكن له كل تقدير واحترام، ونأمل فى استمرار توجه السياح الألمان إلى المقاصد المصرية، التى يلقون فيها كل الود والترحاب والأمان.
ولعل أبرز مافى هذه القمة أنها أكدت على نقاط جوهرية فى شكل العلاقة التى تربط مصر وألمنيا على أساس من الصداقة والندية فى آن واحد، فمصر تعتبر الدولة المحركة للتغيرات فى المنطقة العربية، ولن تنجح التغييرات فى المنطقة إلا إذا نجحت فى مصر، لأنها أكبر الدول العربية من حيث عدد السكان؛ وبلد ذو ثقل كبير من الناحيتين الاقتصادية والعسكرية، وذو تأثير واسع من الناحيتين الثقافية والسياسية فى العالم العربي، كما تتمتع بدور ثقافى رائد بالنسبة لجيرانها، ومصر أيضا تعتبر شريكاً تجارياً رئيسياً فى العالم العربى، ويأتى قبلها فقط الجزائر وليبيا والسعودية، فالبضائع التى تصدرها مصر لألمانيا تصل قيمتها إلى حوالى 1.7 مليار يورو؛ وهو مبلغ لا يقل عما تقدمه الدول النفطية المذكورة آنفاً.
وعن ذلك يقول "مانفريد تيلتس"، من "جمعية دعم التجارة الخارجية الألمانية": إن العلاقات الاقتصادية مع مصر جيدة بصورة تقليدية، ويشير "تيلتس" إلى غرفة التجارة الألمانية العربية كمثال على ذلك: قبل 60 عاماً فى القاهرة افتتحت كأول غرفة تجارة خارجية ألمانية فى العالم العربى، ويؤكد "تيلتس" أن "مصر تحتل موقعاً استراتيجياً، وتمثل بالنسبة للاقتصاد بوابة إلى المنطقتين العربية والأفريقية"، وعموماً فإن الاقتصاد الألمانى هو ثالث أكبر مورد للسلع إلى مصر متخلفاً بفارق بسيط عن الولايات المتحدة الأميركية والصين.
لذا فمنذ زمن طويل تحظى مصر بالأولوية فيما يتعلق بالمساعدات التنموية الألمانية، ووفقاً لبيانات وزارة الخارجية الألمانية؛ فقد قدمت ألمانيا لمصر خلال الخمسين عاماً الماضية ما يعادل خمسة مليارات ونصف يورو، ومنذ نهاية عام 2011 قدمت برلين 112 مليون يورو لدعم الطاقات المتجددة. وتم الاتفاق بعد الثورة على شطب 240 مليون يورو من الديون.
ويرجع اعتماد ألمانيا على مصر فى الناحية السياسية؛ بسبب موقف القاهرة البراغماتى المعتدل تجاه إسرائيل، والذى بدأ منذ أواخر سبعينيات القرن الماضى واستمر حتى يومنا هذا، كما أنه فى ذات الوقت يشعر المصريون بأن الألمان لديهم اهتمام كبير بثقافتهم، فهذه الدولة الشمال أفريقية بأجوائها الشرقية وحضارتها الفرعونية ثم الإسلامية، تعتبر واحة يشتاق لها الألمان، والدليل على ذلك أن هنالك أكثر من مليون سائح يسافرون كل عام إلى أرض النيل، وحتى أولئك الذين لا يسافرون إلى مصر، يريدون أن يكونوا قريبين من الثقافة المصرية، لذا نجد أن المتحف الجديد فى برلين الذى يضم تمثال "نفرتيتى" يعد واحدا من أكثر المتاحف التى يقبل عليها الزوار فى ألمانيا يومياً، إضافة للحضور القوى للمؤسسات الثقافية الألمانية فى مصر.
يبقى لى أن أشيد بجهود الرئيس السيسى فى توطيد علاقات مصر شرقا وغربا عبر جولات مكوكية، انطلاقا من فهم عميق لطبيعة المرحلة التى تمر بها البلاد فى ظل تحديات كثيرة، كما أوضحها السيسى فى كلمته أمام القمة حينما قال: "يواجه العالم فى المرحلة الحالية ظاهرتين تؤثران بشكل كبير على التوازن والاستقرار الدوليين، ومن ثم على تحقيق التنمية فى العديد من دول العالم، حيث أصبح الإرهاب ظاهرة عالمية، لا تحترم الحدود وخطرًا يهدد الجميع، وعلينا أن نعمل سويًا للتعامل الحازم والشامل مع هذا الخطر الذى يهدد السلم والأمن الدوليين، وذلك من خلال تجفيف منابعه وقطع مسار تمويله وإيقاف إمداده بالسلاح والمقاتلين، كما أن الهجرة غير الشرعية والتى نتجت عن عدم الاستقرار، خاصة فى منطقتنا تؤثر بشكل مباشر على كل المجتمعات، بما يتطلب عملًا دوليًا أكثر تكاتفًا للتعامل مع هذه الظاهرة.
وفى واقع الأمر فإن هاتين الظاهرتين تشكلان تحديا كبيرا لكل الدول، سواء فى إطار سعيها نحو تحقيق الاستقرار والأمن، أو تحقيق التنمية والرخاء والنمو الاقتصادى المستدام لمواطنيها، وهو ما عاد وأكد عليه السيسى فى ختام زيارته عبر لقائه بوزير الخارجية الألماني، وقد حرص الأخير خلال اللقاء على الاستماع لرؤية الرئيس فيما يخص تطورات الأوضاع الإقليمية وآخر مستجدات الأزمات التى تشهدها منطقة الشرق الأوسط، حيث أكد الرئيس أن التطورات والتحديات التى تواجه الشرق الأوسط تستند إلى تلك الظاهريتين، واللتين باتتا تهدد أمن واستقرار المنطقة والعالم، لاسيما الأوضاع فى سوريا وليبيا واليمن والصومال، وهو ما يتطلب مواصلة تكثيف جهود المجتمع الدولى للتوصل إلى حلول للأزمات القائمة.