لم تعد حالات فردية وإنما ظواهر تهدد صحة الناس، ونقصد بها تحويل الطب إلى سلعة مثل المنظفات أو خطوط الموبايل، وهناك الكثير من المشكلات تحيط بعالم الطب عندنا تحتاج إلى ضبط، يضاف إليها الحاجة إلى تفعيل القوانين الخاصة بالممارسة والتراخيص والدعاية، والتأكد من صحة مؤهلات من يروجون لأنفسهم أنهم أطباء.
أصبحت هناك ظاهرة لمدعين يظهرون كثيرا فى القنوات ومواقع التواصل على أنهم أطباء، وهم فى الواقع دجالون أو نصابون، بعض هؤلاء يعلنون عن مؤهلات أو تخصصات بشهادات أمام مزيفة أو وهمية، وكل من هب ودب يمكنه تعليق لافتات تزدحم بـ«الدكتوراهات والزمالات والشهادات الدولية» فى كل التخصصات المختلفة، وبعض هؤلاء لم يحصل على الثانوية او بلا شهادة جامعية على الإطلاق. وضربنا مثلا بحالات وقع فيها المرضى ضحايا ودفعوا حياتهم وأموالهم لأطباء ومستشفيات بير سلم، وهو أمر يتكرر ويعجز المرضى على تحصيل حقهم.
وفى نفس الوقت أصبحت هناك تخصصات فى الطب يمارسها أطباء غير مؤهلين، يعتمدون على تكثيف الدعاية والظهور فى القنوات الفضائية فى ساعات مدفوعة وهم إما مزيفون أو غير مؤهلين يوهمون المرضى بكثيرة الظهور فى قنوات النصب بما ليس فيهم، ويتضح أنهم أمام هواة أو جزارين لا يهمهم غير جمع المال والهرب بعد التسبب فى كوارث للمرضى وأهلهم.
ومرات كثيرة نقلنا تحذيرات الأطباء من أن المدعين والجهلاء، الذين يقتلون المرضى بوصفات وعلاجات وهمية، ومعروف أن الدعاية المكثفة فى القنوات الفضائية ومواقع التواصل كثيرا ما تمنح السطحيين والتافهين مكانة أكبر مما يحتله المختصون، وإذا كان هذا يهون فى السياسة والإعلام يمكن أن يكون قاتلا فى الطب والدواء.
وكثير من الأطباء أنفسهم يحذرون من الأطباء المزيفين الذين يكثفون الظهور على القنوات ومواقع التواصل، ويروجون لأنفسهم دون أن يمتلكوا أى مؤهلات لممارسة الطب والعلاج، كما يحذر هؤلاء الأطباء من شراء أدوية «أون لاين»، قد تتسبب فى كوارث للمرضى.
وهناك عشرات البوستات والتقارير التى تروج على مواقع التواصل عن أدوية وعلاجات ومراكز وهمية تبيع الوهم، وعشرات الخبراء المزعومين يروجون لطرق التخسيس، والأطباء المزيفون يشتهرون على مواقع التواصل ويبيعون للمرضى منتجات يزعمون أنها تعالج الأمراض المناعية المستعصية كالبهاق أو الصدفية أو حتى السرطان، فضلا عن منشطات جنسية ومكملات غذائية تباع فقط «أون لاين»، ولا يمكن مقاضاة من يروجونها، لأنهم افتراضيون يصعب العثور على عناوينهم أو أماكنهم.
ولم يعد الأمر يقتصر على قنوات الخزعبلات والنصب التى تروج لعلاج بالأعشاب أو منشطات ومقويات أو أدوية وعقاقير للتخسيس والتسمين، تباع «أون لاين» مع خدمة التوصيل وعندما يتعاطاها المرضى يكتشفون أنها عقاقير كيماوية لا يفترض تعاطيها من دون وصفة طبيب أو أنها مجرد سوائل وكبسولات ملونة ومجرد عبوات بلا فاعلية.
ومن اللافت للنظر أن الفضائيات بير السلم التى تروج للأدوية الوهمية أو الضارة تروج أيضا للخزعبلات والعلاج بالرقية وفك الأعمال لتجمع بين النصب الكيميائى والنصب الخزعبلاتى فى حزمة واحدة، ولا يقتصر على القنوات الخزعبلاتية، وإنما يمتد لغيرها من خلال تخصيص ساعات كثيرة لمن تسميهم أطباء يقدمون أنفسهم أنهم يعالجون أمراضا مستعصية أو مناعية خطيرة مثل السرطان أو الصدفية والبهاق، ويتكرر ظهور هؤلاء الأطباء المزيفين أو بينهم من لم يدرس الطب.
وتتفاعل دعايات القنوات الفضائية مع دعايات مواقع التواصل الاجتماعى، حيث لم تعد هناك حواجز تفصل بين الإعلان والبوست الطبيعى، وأصبحت هناك الكثير من الصفحات الدعائية تبيع علاجا فاسدا أو غير مطابق للمواصفات.
هناك مبدأ فى الاقتصاد أن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق، وفيما يتعلق بالطب فإن الطب السيئ القادر على الدعاية يطرد الطبيب الجيد ويحل مكانه، لمجرد أن المدعين يمكنهم ممارسة الدعاية فى القنوات الفضائية وطالما يظهر المدعى كثيرا ويقدم نفسه على أنه طبيب ومتخصص فى علاج السمنة أو الأمراض الجلدية أو الوراثية المستعصية، يقبل عليه المرضى وطبعا يستعيد المدعون ما أنفقوه على الدعاية المدفوعة بالفضائيات فى صورة رفع أسعار الفيزيتا والكشف، ويضطر المريض للدفع صاغرا، ويخضع أحيانا لابتزاز آخر من إجباره من قبل الطبيب المدعى على إجراء تحاليل وأشعات بالآلاف فى معامل ومراكز معينة، لتتواصل الدائرة على رقبة المريض، ثم يقدم له أدوية يزعم أنها لا توجد إلا عنده وهنا تتواصل دوائر النصب والمتاجرة بآلام المرضى.
وفى حالات ترويج سلع غير طبية على مواقع التواصل فى القنوات أن يتركز الخداع فى سلعة أكل أو ملابس أو أدوات، لكن المشكلة فى الطب أن المستهلك يدفع الثمن مضاعفا ولا يحصل على خدمة، لكنه فى حالة النصب الطبى قد يدفع صحته أو حياته ثمنا لهذه التجارة المحرمة.
وبالفعل فإن العملة الطبية الرديئة والمزيفة تطرد العملة الجيدة أو المؤهلة، والكثير من الأطباء الكبار بالفعل والحاصلين على شهادات وخبرات لايقبلون على عمل دعاية، وبالتالى لا يحصلون على الشهرة التى يحصل عليها النصابون ولاعبو الثلاث ورقات، ممن يدفعون للدعاية فتمنحهم القنوات شهادات ومؤهلات ويصبح هؤلاء مع الوقت فخاخ منصوبة للمرضى والمواطنين، وبالرغم من أن وزارة الصحة ونقابة الأطباء لها سلطة الرقابة والمنح والمنع فإن أحدا لا يطبق القانون وتبقى حياة المواطنين رهنا للنصابين وبائعى الوهم الطبى المدفوع.