ذات مرة وقع فى يدى كتاب ضخم، ليس له غلاف، لذا لم أعرف عنوانه، وكنت صغيرا، فانشغلت بقراءته أكثر من بحثى عن توثيقه، الكتاب كله حكايات عن الحروب والفظائع التى ارتكبها الإنسان فى حياته الطويلة، وخرجت منه بنتيجة أن هناك جزءا فاسدا فى روح الإنسان، هذا الجزء مسؤول عن أسوأ ما نرتكبه، عن إثارة الرعب والخوف عن الرغبة فى التدمير والإطاحة بكل شىء، عن غياب المنطق وغياب الضمير.
قرأ الجميع الجريمة الغريبة التى اتهمت فيها النيابة العامة فى الإمارات سيدة مغربية بقتل عشيقها وطهوه وإطعام أجزاء من جسده لعمال باكستانيين، وكيف أن السيدة قتلت عشيقها قبل نحو 3 أشهر فى مقر إقامتها فى مدينة العين لكن الجريمة لم تكتشف إلا أخيرا، وبعيدا عن التفاصيل، وبعيدا حتى عن مدى صدق هذا الفعل، فهناك من يؤكد أن السيدة المغربية لم تطعم لحم الرجل إلى العمال الغلابة، لكن بالمجمل أى وحش يسكن داخل الإنسان؟
لو حاول علماء الاجتماع والإنثربولوجيا وعلماء الآثار وكل المهتمين بالإنسان وتاريخه رصد أبرز ما قام به الإنسان عبر أيامه الماضية، سيجد كوارث لا حد لها على المستوى الفردى فى قتل القريب والبعيد أو على المستوى الجماعى فى الحروب والغزوات واحتلال أرض الآخرين.
ولو حاول الإنسان العادى، فى محيطه الضيق، أن يلاحظ تصرفات الآخرين، سوف يصاب بالفزع من الحماقات التى يرتكبها الإنسان كى يؤذى الآخرين فيؤذى نفسه، بقصد أو بدون قصد، لكنه فى النهاية يسعى إلى ارتكاب كوارث هو نفسه لا يتخيلها.
واستطاع الشاعر الكبير أمل دنقل أن يعبر عن التحولات التى تلحق بالإنسان فى قصيدته الشهيرة «سفر التكوين» حيث يقول فيها:
«قلت: فليكن العقل فى الأرض/ تصغى إلى صوته المتزن/ قلت: هل يبتنى الطير أعشاشه فى فم الأفعوان/ هل الدود يسكن فى لهب النار، والبوم/ هل يضع الكحل فى هدب عينيه/ هل يبذر الملح/ من يرتجى القمح حين يدور الزمن؟
«ورأيت ابن آدم وهو يجن، فيقتلع الشجر المتطاول/ يبصق فى البئر يلقى على صفحة النهر بالزيت/ يسكن فى البيت، ثم يخبئ فى أسفل الباب/ قنبلة الموت، يؤوى العقارب فى دفء أضلاعه/ ويورث أبناءه دينه.. واسمه.. وقميص الفتن»
«أصبح العقل مغترباً يتسول، يقذفه صبية/ بالحجارة، يوقفه الجند عند الحدود، وتسحب/ منه الحكومات جنسية الوطنى.. وتدرجه فى/ قوائم من يكرهون الوطن/ قلت: فليكن العقل فى الأرض، لكنه لم يكن/ سقط العقل فى دورة النفى والسجن.. حتى يجن/ ورأى الرب ذلك غير حسن!».