فى اليوم العالمى للتضامن مع القضية الفلسطينية الذى تحل ذكراه فى 29 نوفمبر من كل عام، يتبادر إلى ذهنى مباشرة مسلسل "التغريبة الفلسطينية" للمخرج حاتم على، والمؤلف "وليد سيف" عام 2004، والذى يأتى بمثابة "أيقونة دراما القضية"، عندما رسم صورة واقعية للنضال الفسلطينى المنسى وأعمال المقاومة المبكرة، وذلك من خلال ملحمة درامية تدور أحداثها حول معاناة أسرة فلسطينية فقيرة فى زمن الاحتلال البريطانى، ثم مذابح عصابات الاستيطان الصهيونى، ما بين ثلاثينيات وستينيات القرن الماضى، وتبدو دهشة "التغريبة" الإبداعية فى قدرته كملحمة درامية صنعت فى سوريا بعناية فائقة، على نقل حياة الفلسطينيين فى بيئاتهم المختلفة بأمانة، وبعمل جسور اشتغل على أدق التفاصيل، إلى جانب ذكاء خطاب المؤلف والمخرج بلغة امتلكت القدرة على أنسنة الفلسطينى، وأيضا فى نقديته لمشكلات هذا المجتمع الذى ظل يقدم بصورة ذهنية ومعمّقة على الشاشة عبر 31 حلقة.
ولنتأمل مليا المشاهد الأولى من المسلسل بكاميرا المخرج المبدع "حاتم على" فى "التغريبة"، فبعزف شجى حزين على إيقاع "القانون"، وفى شموخ وكبرياء يرقد الجسد المسجى بعد طوال عذاب، إنه "أحمد أبو صالح الشيخ يونس"، والذى جسد دوره ببراعة الفنان الكبير "جمال سليمان" فى ارتجال مذهل، فبعد أن سلم الروح لبارئها منذ لحظات، يدخل الأخ الأصغر "على" وقام بدوره "تيم حسن" فى واحدة من أعماله الدرامية الناضجة - على صغر سنه آنذاك - كان حاضرا لتوه من عمان التى استقر بها بعد جسد الحلم الكبير للعائلة الفقيرة بحصوله على الدكتوراه من أمريكا.
يدخل "تيم" فى مشهد يعد "ماستر سين" المسلسل، ليجتر الذكريات التى عاشها فى كنف أخيه "أبو صالح" الذى كان يمثل العمود الفقرى للعائلة الريفية الفلسطينية الفقيرة، فقد ارتاح المناضل الأسطورى لتوه بعد أن ذاق مرارات الغربة والتهجير كل سنوات عمره من المرارة والألم، وعايش الانكسارات والهزائم الكبرى التى سبقت النكبة وما بعدها، دون وصول إلى أفق قريب للعودة التى طال انتظارها، ولا تزال حتى الآن حلما صعب المنال لدى أجيال متعددة من أبناء فلسطين.
لقد عمد المخرج ومن اللحظة الأولى إلى تثبيت مشاهد الريف الضائع فى الذاكرة التى لم تغاردها حتى الآن، وقد نجح بالفعل فى إزاحة اللثام عن تلك السير الحية من البطولات المنسية، والتى روت بدمائها الطاهرة الذكية أرض فلسطين فى بواكير الزحف الصهيونى، فى أعقاب "وعد بلفور" اللعين، وهبوب الرياح العدائية لعصابات "الهجاناة" بأفعالهم المشينة التى استهدفت الأرض والناس، حتى وقوع النكبة التى انفرط العقد الفلسطينى على أثرها بهزيمة وتراجع الجيوش العربية.. تلك ذكريات ستظل محفورة فى الذاكرة الجمعية الفلسطينية حتى نهاية المدى.
يقف الأخ الأصغر "على" أمام جثمان "أبو صالح" بشاربه الأبيض الكث والشال الأبيض الذى يعكس نورانية تلك اللحظة، وفى تلخيص غير مخل يسرد جوانب المأساة محدثا نفسه بمرارة ممزوجة بعذابات السنين قائلا: "أبو صالح، يا خوى أبو صالح .. أنا على .. أخوك .. أخوك وإبنك، هسه بدى أقولك إشى : أنا لولاك ما صرت إشى، ياحبيبى يابو صالح، ياحبيبى ياخوي"، ثم يستعرض بصوته المخضب بالشجن تاريخ الأب الروحى للنضال الفلاحى الفسلطيني.
وبأسلوب الرواى يقول فى آسى موجع: "رحل الرجل الكبير، وتركنى وراءه أتساءل عن معنى البطولة، أخى أحمد.. أبو صالح، لم تعلن خبر وفاته الصحف والإذاعات، ولم يتسابق الكتاب إلى استدعاء سيرته وذكر مآثره، وقريبا يموت آخر الشهود المجهولين، آخر رواة المسنيين، أولئك الذى عرفوه أيام شبابه جوادا بريا لم يسرج بغير الريح، فمن يحمل عبئ الذاكرة ؟، ومن يكتب سيرة من لاسير لهم فى بطون الكتب، أولئك الذين قسموا جسومهم فى جسوم الناس، وخلفوا آثارا عميقة تدل على غيرهم، ولكنها لاتدل عليهم.
وللحقيقة فإن كاميرا "حاتم على" مخرج هذا المسلسل الأيقونة حلقت ببراعته المعهودة لتغوص بليونة خاطفة تحت جلد القضية، وفى عمق هذا الجرح الغائر يفور الدم الفسطينى فواحا برائحة المسك والعنبر، مخلوطا بطعم المجد والخلود الأبدى لأولئك الذى فنوا فى سبيل القضية التى ماتزال تشكل وصمة عار على جبين العرب والعالم إلى يومنا الحالى، وكأنها تعيد من عام إلى عام ومرورا بالانتفاضة الثالثة فى عام 2016، ووصولا يومنا الحالى دقت أبواب التارخ الآن "أسطورة سيزيف" ليعاود الكرة من جديد دون جدوى الصعود والهبوط.
والنتيجة كما قالت مؤسسة "أوكسفام الخيرية" ومقرها بريطانيا مؤخرا، إن سكان قطاع غزة يعيشون كارثة حقيقية منذ بدء أزمة الكهرباء والوقود والرعاية الصحية، وأوضحت أن وصول خدمات أساسية الى الناس كالمياه والصرف الصحى أصبح أسوأ مما خلفته الحرب على غزة قبل ثلاث سنوات، إنها إذا أوضاع مزرية تؤكد استمرار أسطورة سيزيف المؤسفة بكل تفاصيلها المأساوية على أرض الواقع الفلسطينى الحالي.
أعود للتغريبة مرة ثانية : ارتعاشات الرعب ومرارة اللحظات المأساوية التى اعترت مجمل القضية تجلت فى أداء بارع لكل من "باسل خياط "حسن"، خالد تاجا "أبو أحمد"، جوليت عواد " أم أحمد" يارا صبري "فتحية"، نادين سلامة "خضرة"، قيس الشيخ نجيب "صلاح" مكسيم خليل "أكرم السويدي"، سليم صبري "أبو أكرم السويدى”، حسن عويتي "أبو عايد".
وفضلا عما سبق سنلاحظ أداء استثنائيا لحورية الدراما العربية "نسرين طافش" بدور "جميلة" والتى عبرت فيه بصوت شجى عن تلك الأنثى المسكونة بالعفة والعفاف، على رقة حالها وغلبتها على أمرها، مقهورة بتخلف عشيرتها، وبمزاج من عفوية وتلقائية الموهبة التى تفوق سنها وخبرتها - آنذاك - كممثلة شابة استطاعت فى ثلاثة حلقات فقط أن تبكينا بكاءا حارا يدمى القلوب على تلك الفتاة البريئة، وعلى رقة حالها أصبحت رمز فلسطين سليبة الإرادة، ضائعة الهوى والهوية، ناهيك عن عذوبة أداء حاتم على نفسه فى دور "رشدي".
وليست التغريبة وحدها هى التى جسدت المرارة والألم فى تاريخ قضية العرب المركزية، فهنالك مسلسل "عائد إلى حيفا"، والذى عرض تجربة جرح وطن، وعذاب إنسان عانى قهراً وظلماً وحرماناً وتشرداً، لكنه يحمل أمل العودة الساكن فى الوجدان، كذلك مسلسلات: "الشتات" و"حدث فى دمشق " و"سليمة باشا"،و"حارة اليهود" أربعة مسلسلات تعبر بصدق عن تحول الشتات اليهودى المزعوم لشتات فلسطينى غير محتمل.
ويمكننى القول: على قدر ما أفردت السينما للقضية المركزية فى الذاكرة العربية، مسلطة أضواء كاشفة لعمق الجرح، فإن الدراما كانت الأنضح والأذكى، والأكثر تأثيرا فى نفوس الفلسطينين والعرب، ولعلها كانت السبب، بل إنها ربما أشعلت الشرارة الأولى للانتفاضتين الأولى والثانية، بداية من التجربة الدرامية الأولى التى أفردت للموضوع الفلسطينى، مسلسل "عز الدين القسام -1981) من تأليف أحمد دحبور وإخراج هيثم حقى، والذى صورالملحمة الكفاحية للقسام المجاهد السورى الأصل، وقد أدّى دوره الفنان أسعد فضة، ثم تلاه عام 1994 مسلسل "نهارات الدفلى" الذى كتبه الشاعر الفلسطينى الراحل فواز عيد، وأخرجه أحمد زاهر سليمان. وعلى رغم خصوصية موضوعه، إلا أنه لم يلفت العمل الأنظار إليه فى حينه.
هذا ويعد مسلسل "صلاح الدين الأيوبى” من تأليف د.وليد سيف، ومن إخراج حاتم على بطولة (جمال سليمان - غسان مسعود - سوزان نجم الدين - باسم ياخور -حسن عويتي - نجاح سفكوني - وائل رمضان - محمد مفتاح - باسل خياط - قيس الشيخ نجيب - تيم حسن - عبد الرحمن آل رشي - جلال شموط - رفيق سبيعي - رفيق على أحمد - - خالد تاجا ) واحدا من أهم الأعمال التى رسخت ملامح القضية، حول القدس تحديدا.
فالمسلسل يتناول سيرة البطل والقائد صلاح الدين الأيوبى الذى حرر القدس بعد أن وحد العالم العربى والإسلامى، خاصة أنه كان قائدا فذا، وشخصية رمزية على مدار التاريخ البطولى العربى والإسلامى، وفوق ذلك كان إنسانا يدمع يصفح جديرا بالتقدير والإعجاب، فهو لا ينسى فى غمرة جهاده أن للفرسان أخلاق وللصراع أوجه حضارية أخرى، فعلى الرغم من أن صلاح الدين كان خصماً للأوروبيين، إلا أنهم يعتبرونه مثالاً للفارس الشهم الذى تتجسد فيه أخلاق الفروسية.
وهذا ماقاله "توماس أرنولد" فى كتابه " الدعوة إلى الإسلام" : يظهر أن أخلاق صلاح الدين الأيوبى وحياته التى انطوت على البطولة، قد أحدثت فى أذهان المسيحيين فى عصره تأثيرا سحريا خاصا، حتى إن نفرا من الفرسان المسيحيين قد بلغ من قوة انجذابهم إليه أن هجروا ديانتهم المسيحية، وهجروا قومهم وانضموا إلى المسلمين.
وأيضا أكده "جوستاف لوبون" فى كتابه المهم " حضارة العرب" :لم يشأ السلطان صلاح الدين أن يفعل فى الصليبيين مثل ما فعله الصليبيون الأولون من ضروب التوحش، فيبيد النصارى عن بكرة أبيهم؛ فقد اكتفى بفرض جزية طفيفة عليهم مانعا سلب شيء منهم.
ربما بدت القدس كمدينة رمزية أكثر حضورا بعد مسلسل "صلاح الدين الأيوبى” مع باسل الخطيب فى مسلسله "أنا القدس عام 2010 " وهو إنتاج مشترك سورى مصرى، من تأليفه وشقيقه تليد الخطيب، وبطولة نخبة من ممثلى سوريا ولبنان ومصر والأردن والعراق منهم (عابد فهد - كاريس بشار صبا مبارك - فاروق الفيشاوي - نضال نجم، منذر رياحنة - عمرو محمود ياسين - عبير صبري - صباح جزائري - سعيد صالح - تاج حيدر - مازن الناطور - نجلاء الخمري (وغيرهم، ويتحدث عن مدينة القدس فى تلك الفترة بكل ما يتعلق بجوانبها النضالية والأدبية والسياسية والاجتماعية من خلال خط درامى يواكب ظهور شخصيات بارزة فى تاريخ فلسطين الحديث، كما يتناول تاريخ المدينة خلال فترة حرجة تمتد 50 عاما بدءا من سنة 1917، حين وضعت فلسطين التاريخية تحت الانتداب البريطانى وصدر وعد بلفور بإقامة وطن قومى لليهود فى فلسطين التى كان يغلب العرب على سكانها آنذاك، وتنتهى أحداث المسلسل بحلول عام 1967 حين سقطت مدينة القدس كلها فى يد اسرائيل التى كانت تسيطر على الجزء الغربى من المدينة منذ عام 1948.
وللإنصاف فإن الدراما السورية كان لها النصيب الأكبر فى التعبير بصدق وواقعية للرواية المعقّدة للألم الفلسطينى، ربما بحكم أنه كان هناك ما يقرب من 600 ألف لاجئ فلسطينى، وعلى رغم توزّعهم على عدد من المخيمات فى المحافظات السورية، فإنهم قد حققوا قدراً كبيراً من الاندماج فى المجتمع السورى من دون أن يتخلّوا عن هويتهم الوطنية، لذا أسهم هؤلاء فيه منذ وقت مبكر، ابتداءً من ممثلين روّاد كالراحل "يعقوب أبو غزالة ولينا باتع"، مروراً بالراحليَن "يوسف حنا وصبحى سليمان"، إضافةً إلى "بسام لطفى وتيسير إدريس ونزار أبو حجر".
ووصولاً إلى جيل الشباب، ومنهم نجوم أكفاء مثل "عبد المنعم عمايرى، جومانة مراد، نسرين طافش، نادين سلامة، إياس أبو غزالة، أناهيد فياض، ديمة بياعة"، وفى الإخراج برع كل من "المخرج والممثل الكبير حسن عويتى، باسل الخطيب، بسام سعد، المثنى صبح" إضافة إلى أن المخرج المتميز "حاتم على” المنحدر من الجولان، حيث نشأ فى مخيم للاجئين، لذلك لم تكن حساسيته غريبة عن التراجيديا الفلسطينية كما جسدها على الشاشة بأعمال غاية فى البراعة والإبداع.