«الحلم والكيمياء والكتابة فى عالم محمد عفيفى مطر» هو الكتاب الأحدث للناقد الكبير ووزير الثقافة الأسبق الدكتور شاكر عبدالحميد، وهو بحق كتاب جميل فيه كثير من الإبداع والإنصاف معا، الإبداع الذى يتجلى فى الإمساك بتفاصيل وملامح الشاعر الراحل الكبير عفيفى مطر، فى الوقت الذى حاول كثير من النقاد والدارسين تنميط شعر الراحل الكبير ووضعه فى دائرة الغموض تارة والمشاكسة السياسية تارة أخرى والقومية العربية تارة ثالثة لا لشيئ إلا كسلا وعجزا عن مقاربة عالمه ومفاتيحه الأساسية، أما الإنصاف هنا فيتمثل فى إعادة الاعتبار للأسس التى قام عليها مشروع الشاعر الراحل، فى وقت يعتبر نقاد كثيرون الشاعر الذى ينطلق من أساس فلسفى أو فكرى أو موقف سياسى شاعرا ذهنيا أقل درجة من شعراء الفورة العاطفية أو الانفعال الشكلى فى القصيدة.
كتاب شاكر عبدالحميد يشتمل على تمهيد وخاتمة وسبعة أبواب تمثل متوالية رمزية فى سياق الشاعر والناقد معا، وهى باب الكدح النبيل وباب الصمت وباب الرعب وباب الأشباح وباب الأحلام وباب الكيمياء وباب الكتابة، وفى كل باب من هذه الأبواب تمثيل لمفتاح من مفاتيح الشاعر الراحل محمد عفيفى مطر، وكيف يتوسل الناقد من خلال تفصيل وتفسير واستعراض المفتاح وظلاله ، إلى كشف جانب من جوانب القصيدة المطرية التى حاول المدرسيون حصرها فى الغموض والتهويم والرمزية المظلمة، لنكتشف مع شاكر عبدالحميد طبقة من الطبقات الجيولوجية لأرض شعرية خصبة وثرية وحاملة لكثير من المفاجآت.
ويسعى شاكر عبدالحميد من خلال أبواب الكتاب كلها إلى التأكيد على عنصرين مهمين للغاية، الأول هو التكوين الشعرى شديد الثراء للشاعر الراحل عفيفى مطر، الذى يبدأ بالأسطورة الشخصية والذات التى تكابد حتى تكتشف عالمها اللغوى والثقافى والمقولات الأساسية الحاكمة لتصورها عن العالم وعن القصيدة، وكيف تنمو هذه التصورات طوال الوقت وتغتنى بطبقات جديدة من المقولات الحاكمة والتصورات الفلسفية والأدوات الثقافية واللغوية، حتى اكتمال المشروع بدواوينه المتتابعة.
والعنصر الثانى الذى يسعى شاكر عبدالحميد إلى التأكيد عليه، أن قصيدة عفيفى مطر شديدة الثراء، لكنها ليست طلسما مغلقا، وأنها أشبه بالموسيقى البوليفينية المتداخلة المتراكبة لكنها يمكن فك شفراتها والتوصل إلى جميع المفاتيح اللغوية والرمزية والمجازية والفلسفية والرؤيوية التى تحكمها، وبالتالى نمسك بالعالم الذى يحاول الشاعر صنعه وتثبيته بالكلمات، ولذلك ليس غريبا أن يكون هذا الكتاب الذى بين أيدينا هو تطوير لمشروع دراسة قديمة منذ أكثر من عشرين سنة أنجزها المؤلف عن واحد من أهم دواوين مطر «أنت واحدها وهى أعضاؤك انتثرت» ونشرها بالفعل فى مجلة فصول فى عصرها الذهبى تحت قيادة مؤسسها الراحل عز الدين إسماعيل، ثم أعاد التفكير فيها والبناء عليها من خلال نظرات جديدة فى مختلف دواوين الشاعر الراحل ومجموعة من رسائلة ومخطوطاته ومدوناته حول الشعر والسياسة والفلسفة.
إجمالا، قدم لنا الدكتور شاكر عبدالحميد صياغات نقدية شديدة الثراء حول عالم الراحل محمد عفيفى مطر الذى كان حلمه أن يكتب قصيدة مصرية خالصة، تستند إلى الموروث الشعبى والموروث الفلسفى الإغريقى والفلسفات الإسلامية والتراث الصوفى، لا بحثا عن لحظة ذهبية تغرق فيها كما يفعل المتطرفون هذه الأيام، بل، كما يقول هو نفسه، «سعيا إلى سلاح ووجه، وسيلة وغاية بإعادة اكتشاف الوجود والمواقف التراثية من منظور أنها إضاءات للحظات المعاصرة وتعرية للقائم الراهن وتفجير لأحلام الفرد والأمة وتجسيد للمستقبل».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة