هناك اتفاق واسع بين الباحثين على أن أزمة المجتمع والسياسة فى مصر ترجع فى أحد أهم أسبابها إلى مشكلات النخبة وأزمتها من حيث النشأة والتكوين والأداء العام، وبدون الدخول فى تعريفات نظرية بين مدارس مختلفة يمكن القول بأن النخبة تضم الأفراد الذين يمتلكون القوة والثروة والمعرفة والقدرة على التأثير فى المجتمع أكثر من غيرهم.
والنخبة المصرية منذ نشأتها الحديثة فى عصر محمد على 1805: 1940 وحتى اللحظة الراهنة منقسمة على نفسها بين مكون مدنى حديثى، ومكون إسلاموى تقليدى، والمفارقة أن كل مكون يتضمن بداخلة أقسام متعارضة ومتنافسة، وهذه الازدواجية والانقسام الداخلى فى كل معسكر بدد كثير من فاعلية النخبة وتماسكها وقدرتها على التأثير فى المجتمع، فضلا عن الحفاظ على استقلالها النسبى فى مواجهة سلطات الاحتلال البريطانى أو سلطة الدولة، لذلك فإن الاستتباع كان هو القانون العام الذى حكم علاقتها بالسلطة السياسة، حيث عملت أقسام كبيرة من النخب المصرية فى أجهزة الدولة، أو دخلت فى تفاهمات وشراكات معها.
والنخب المصرية عجوزة وجامدة من حيث العمر والفكر، لذلك هى محافظة فى الفكر والسلوك، كما أن دوران وتجديد أفراد النخبة بطىء ومحدود للغاية، ربما لارتباطها ببيروقراطية الدولة، وربما لأنها تدافع عن المصالح الضيقة لأفرادها، ولا تسمح النخب المصريه للشباب بلعب أدواره الطبيعية، خاصة النخبة السياسية العجوزة التى تضرب بالديمقراطية داخل الأحزاب عرض الحائط، فمعظم رؤساء الأحزاب وجماعة الإخوان المسلمين لا يتغيرون إلا بالموت!! وأعتقد أن ثورتى 25 يناير و30 يونيو قد فضحتا عجز النخب المصرية ثم جاءت سنوات حكم الرئيس السيسى لتسقط ورقة التوت من على قطاعات واسعة من النخب المصرية، التى تهافت بعضها للتقرب من السلطة الجديدة من دون جدوي، بينما انسحبت قطاعات أخرى تنتظر أو تراقب نتائج الاصلاحات الاقتصادية والمشروعات الكبرى التى أطلقها السيسى، كما فشلت قطاعات أخرى من نخبتنا فى لعب دور المعارضة الوطنية، حتى أنها لم تتمكن من طرح منافس قوى فى الانتخابات الرئاسية المقبلة.
بصفة عامة يمكن القول بتراجع اهتمام النخب المصرية بالعمل العام وخدمة المجتمع بما فى ذلك المشاركة السياسية، وهنا قد تطرح أسباب كثيرة لا مجال للخوض فيها بالتفصيل لكن المفارقة أن تراجع أدوار النخب ترافق مع زيادة الفرص المتاحة أمامها منذ التسعينيات للاستقلال المادى والأدبى عن مؤسسات الدولة، حيث أدى تراجع دور الدولة وتنامى دور رجال الأعمال، مع زيادة ملحوظة ومستمرة فى الاستثمار الخاص والأجنبى ما سمح لقطاعات من النخبة المصرية بالاستقلال عن مؤسسات الدولة، ولنأخذ مثلا قطاع الأعلام والترفيه، حيث ظهرت منذ بداية الألفية الثالثة صحف وقنوات خاصة يمتلكها رجال أعمال قدموا الدعم لأفراد من المثقفين والإعلاميين والسياسيين، شكلوا شبكة مصالح وتوافقات مختلفة عن علاقات الاستتباع التقليدية بين الدولة وأفراد النخبة، ما يعنى أن بعض أفراد النخبة غيروا من أشكال الاستتباع من الدولة إلى رجال الأعمال «مصريين وخليجيين وأجانب»، إضافة إلى بعض الدول الأجنبية، وهو فى كل الحالات يمثل تغييرا لكنه قد لا يكون إيجابيا تماما، كما يثير عديد من الإشكاليات التى تحتاج إلى دراسات وبحوث فى تأثير ما هو غير وطنى «التمويل الأجنبى المشروع أو غير المشروع» على أفكار ومواقف النخب المصرية.
هناك تحول ثان مهم وكبير فى تكوين النخب المصرية، حيث تراجعت أعداد النخب التى تنتج المعرفة والقوة اعتمادا على تعليم جيد وثقافة حديثة لصالح النخب التى تشتغل بعمليات نقل وترويج المعرفة والثقافة والفن وكل أشكال القوة، ويعمل هؤلاء فى قطاعات تكنولوجيا الاتصال والترفيه والفنون وتداول الثقافة الشعبية والإعلام والإعلان أو ما يعرف بمنتجات الثقافة الشعبية، حيث ارتفعت أعدادهم وتراجع مستواهم المهنى والمعرفى، وذلك لسد الزيادة الكبيرة فى الطلب على هذه النوعية من المنتجات والخدمات، ولاشك أن زيادة أعداد العاملين فى هذه القطاعات خارج مؤسسات الدولة ونجاحهم، وتحول بعضهم إلى نجوم فى الإعلام والدراما soap opera قد شكل تحولا بالغ الأهمية، لم تعرفه مصر منذ ثورة 1952. وأتصور أن هذا النجاح كان المقدمة الطبيعية لظهور مزيد من نجوم الإعلام والترفية بعد ثورة يناير. القصد أن زيادة أعداد الإعلاميين وناقلى الثقافة المستقلين عن سلطة الدولة شجعهم على لعب أدوار مستقلة وتقديم خطابات نقدية، وكذلك إثارة معارك وهمية تحركها دوافع البحث عن الشهرة والانتشار وجذب المعلنين.
أتصور أنه لا بديل أمام مصر فى هذه المرحلة سوى استكمال الحرب على الإرهاب والسير بقوة وسرعة نحو التنمية الشاملة وبناء نظام سياسى ديمقراطى تعددى بشكل حقيقى، يكون قادرا على استيعاب عناصر التغيير والتحول فى تكوين وأدوار النخب الجديدة، ودعم دور الشباب، وفى هذا الإطار أقترح أن يبادر أحد مراكز البحوث المصرية بدراسة شاملة وتتبعية لتكوين النخب وأدوارها ووضع بدائل لضمان استقلال النخب عن الدولة وعن سلطة ونفوذ رجال الأعمال والمؤسسات الأجنبية، بحيث تكون قادرة على القيام بأدوراها كمراكز تفكير ووضع سيناريوهات وحلول لمشكلات المجتمع والسياسية.