«القبور تنادى أسامينا.. والموت يعرف كيف يصطفينا.. سطوة الموت لن تغير لقبنا.. فنحن أحياء للشهادة سائلين».. هذا نص ما كتبه العقيد البطل أحمد المنسى، قائد الكتيبة 103 شمال رفح، قبل استشهاده، على صفحته على موقع التواصل الاجتماعى «فيس بوك».
شعار يؤمن به أبطال الجيش المصرى منذ فجر التاريخ وحتى الآن، فهل نخشى على مثل هؤلاء الأبطال وهم يخوضون أشرف المعارك، للمحافظة على كيان وأمن واستقرار الدولة المصرية، ومجابهة كل المخططات الرامية لإسقاط البلاد فى وحل الفوضى؟!
أبطال الجيش المصرى يعملون فى صمت، ويستشهدون فى صمت، دفاعًا عن الأرض والعرض والشرف، مقدمين أرواحهم فداء لوطنهم، فى ملحمة عشق للوطن، ومرتبة عليا من التضحية، دون الانتظار لجمع مغانم، لا مال ولا شهرة ولا تصدر للمشهد.
أبطال الجيش ارتدوا ثياب الرجال، والرجال تقف كالأسود على خطوط النار، وتحت الشمس الحارقة صيفًا، وعواصف الثلج شتاء، ويواجهون الموت بجسارة، لا يتضجرون، ولا يتأففون من زيادة الأسعار، أو غياب بسكوت «لوكر» ونسكافيه «جولد»، أو يمتعضون من طعم عيش «الجراية» الصعب، وطعام «الميس»، ورغم ذلك يعشقون وطنهم ويدافعون عنه.
بينما، يجلس الناشط الثورى، والرجل النخبوى خلف الكيبورد فى منزله وتحت المكيف، وبجواره القهوة «بن غامق» أو «البيرة المثلجة»، أو فى أحد الكافيهات الشهيرة، ويتناول نفس المشاريب، وبجواره عدد من الناشطين والناشطات، ثم يهاجم الجيش، وكم هو متداخل فى صناعات الكعك ولبن الأطفال، ويشتكى من نار الأسعار، ويلعن ويسب ويشتم النظام والحكومة بأقذر أنواع الشتيمة، ويكيل لهم كل الاتهامات التى يعاقب عليها القانون، ثم يقول «نظام كمعى وكابت للحريات وديكتاتورى»، ويسارع بكتابة بيان باللغة الإنجليزية على صفحته، يخاطب فيها الأمريكان والأوروبيين، للتدخل فى الشأن المصرى.
نعم، نعيش طوال السنوات التى تلت 25 يناير 2011 زمنًا مقلوبًا، فيه القيم والفضائل الأخلاقية والضمير والشرف والوطنية وصمة يلصقون بها أصحابها، واتهامهم بالمطبلاتية وعبيد البيادة، بينما العربدة و«الهمبكة»، وقلة الأدب والسفالة والانحطاط والخيانة، صارت فضيلة وعملًا ثوريًا، وفروسية وشجاعة، والجميع يحترمهم ويقدرهم.
معادلة الصوت العالى، والتهديد والوعيد، والمراهقة الثورية، أصبحت السند والدعم القوى للحصول على مكتسبات ضخمة، ولم يعد للقوانين، سواء قوانين الثواب والعقاب الوضعية، أو السماوية، أو الأخلاقية، أى دور فى تحقيق العدالة، وإعادة الحقوق بشكل شرعى، وإنما تحقق أكبر قدر من المكتسبات كلما كان صوتك عاليًا، وتحمل فى جعبتك عددًا كبيرًا من أهم قواميس البذاءة والشتائم الوقحة، وهو السلاح الفتاك لإرهاب الخصوم.
أيضًا هناك انقلاب مبهر ومدهش فى معادلة المصطلحات الحياتية والأخلاقية، فى ظل زماننا المقلوب على أم رأسه، فنجد «الشاذ» ناشطًا حقوقيًا، تملأ نظرياته وطرحه ورؤيته السمع والأبصار، ويتحول إلى أشهر مشهور فى القطر المصرى الشقيق، كما أن المتآمر والجاسوس صار لقبه ناشطًا سياسيًا وخبيرًا استراتيجيًا، يأتى بنظريات «القلووظ»، ويتحدث عن الشيفونية، والبروليتاريا، والديماجوجية، ويرى فى الحكم العسكرى فاشية، أما الحكم الإرهابى فهو مدنى ديمقراطى، ثيوقراطى، «باذنجانى» عظيم.
أما الذى يخرق القانون، ويدوس عليه بأقدامه، فهو «ثائر»، لا يشق له غبار، ولا ينتهج أى عمل مفيد له أو لبلده، «مستخسر» أن يجهد نفسه فى عمل يدر له راتبًا، بينما هو ثائر متفرغ للعمل الثورى، ليل نهار، ويعلن يوميًا عن مسيرات ومظاهرات ثورية ضد الطغيان والظلم!
أما الذى يسب جيشه، ويردد شعار «يسقط يسقط حكم العسكر»، فهو «صاحب قضية»، وشاب وطنى يبحث عن الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وعندما تسأل أى صاحب قضية من هؤلاء عن: هل تحقق الرخاء ورغد العيش بعد ترديد مثل هذه الشعارات السمجة؟، فلا تجد أى إجابة، وينظر إليك على أنك من «عبيد البيادة»، وتتجلى المأساة عندما تجد احتضانًا لمثل هؤلاء من الجميع، فى واقعة «غرام أفاعٍ» كارثية.
أما اللاعبون الأساسيون للعبة الانتهازية السياسية، فهؤلاء يلقبون أنفسهم بـ«النخبة».. هؤلاء يتحدثون ليل نهار فى الصحف والمواقع الإلكترونية، وعلى مواقع المراحيض العامة «فيس بوك» و«تويتر»، وأمام كاميرات القنوات الفضائية المختلفة، وفى الندوات، والمؤتمرات، والمحاضرات عن الزخم الثورى، والعدالة الانتقالية، والانتخابات بشكل عام، ويضعون ساقًا فوق ساق وهم يملون شروطهم على الدولة، ويضعون روشتات لعلاج مشاكل المجتمع والسلطة، ومع كل روشتة ووصفة يضعونها، تتفاقم أورام المجتمع، وتتحول من أورام حميدة إلى سرطانية، تدمر الجسد، ومع كل حادث ومشكلة، يعيدون نفس الكرة، وتتفاقم الأورام والدمامل والتقيحات العفنة، ومع ذلك مستمرون، ويصدقون أنفسهم بأنهم نخبة عظيمة، رغم اندثار وجودهم وأثرهم فى الشارع كاندثار الديناصورات.
أما رجال مصر الشرفاء، والمدافعون عن الحق، سواء جنود وضباط الجيش أو الشرطة، فيقاتلون الأعداء فى صمت، ويواجهون رصاص الإرهاب الغادر فى صدورهم بصمت، ويستشهدون بصمت، ويقودون معارك التنمية بصمت، ومع كل ذلك، لا يسلمون من التسفيه والتسخيف من أراذل الناس الذين خرجوا علينا بعد 25 يناير 2011!
ولك الله يا مصر!