العبث الكامل هو أقل ما يمكن أن يوصف به مؤتمر ميونخ للأمن، فالمؤتمر العريق الذى يعود تاريخ تأسيسه إلى العام 1963 ، والذى يعتبره محللون من أهم الفعاليات العالمية الدورية لبحث السياسات الأمنية فى مختلف دول العالم، يستضيف بغرابة شديدة قادة الدول التى تعانى من الإرهاب وتحاربه ورعاة الإرهاب أيضا، كما يستضيف الداعين لتفعيل السياسات الأمنية الصارمة التى تضمن سلامة الدول ذات السيادة وكذا المشاركين فى تقويض هذه السياسات ومشعلى الحروب فى مختلف مناطق العالم.
كيف يستقيم إذن أن يضم أكبر مؤتمر لصياغة أمن العالم والسياسات التى تضمن استقراره، تجار الحروب ورعاة الإرهاب ووكلاء المشاريع الاستيطانية العدوانية؟ بم نسمى ذلك؟ وهل يكون للمؤتمر معنى إذن عندما يمنح الكلمة لتميم بن حمد أمير قطر، بينما تطالب قاعات المؤتمر والمشاركين فيه بمنع شراء الغاز القطرى ووقف التعامل مع الإمارة السوداء باعتبارها من أكبر رعاة الإرهاب فى العالم؟
ترك المساحة خلال المؤتمر لأمير قطر ليدعو إلى مبادرته الهلامية الخاصة باتحاد شرق أوسطى للأمن، بينما يطالب مشاركون فى جلسة أخرى بنفس المؤتمر بمكافحة دعم قطر وتمويلها للإرهاب، هو نوع من العبث الكامل أو العشوائية المقصود بها إفراغ المؤتمر من كل هدف، أو تكريس الوضع القائم فى العالم الآن الذى لا يمكن تقييمه أو وضع قواعد محددة له ما دامت السياسات الاستعمارية الجديدة هى السائدة.
والفضائح التى فجرها خبراء وصحفيون فرنسيون عن جرائم تنظيم الحمدين فى أفريقيا خلال المؤتمر، أيضا يمكن وصفها بالعبث الكامل، خاصة مع صمت وتواطؤ فرنسا مع تنظيم الحمدين، فقد أعلن خبراء وصحفيون فرنسيون أن الأسلحة الفرنسية التى باعتها فرنسا لقطر تم تسليمها إلى الجماعات الإرهابية فى ليبيا ومالى وأن ميليشيات الإرهاب واجهت القوات الفرنسية بالصواريخ الفرنسية، وأن الطائرات القطرية ساهمت فى نقل الإرهابيين من مالى إلى الصحراء الليبية دون أن يصدر تعقيب أو إدانة من السلطات الفرنسية أو من ممثليها بالمؤتمر!.
وهل يتسق أن يتطاول وزير خارجية تركيا فى كلمته خلال المؤتمر ويسعى لقلب الحقائق وفرض المشروعية على عدوان بلاده على سوريا والعراق وعلى تعاونه المعلن مع أعتى التنظيمات الإرهابية فى العالم واستخدام عناصر داعش كطليعة لغزو عفرين السورية، وكذا محاولة استعادة مناطق للتنظيم فى العراق مرة أخرى؟
ما الهدف إذن من المؤتمر؟ وما مفهوم الأمن العالمى الذى يسعى إلى تكريسه أو مناقشته أو التباحث بشأنه؟ أهو أمن السياسات الاستعمارية الجديدة؟ لقد رأينا رئيس الوزراء التركى يحذر سوريا من محاولة دخول قواتها النظامية إحدى مدنها «عفرين»، معتبرا ذلك نوعا من العدوان المعلن على بلاده؟ وفق أى قانون دولى تصدر هذه التصريحات؟ وفق أى شرعية دولية؟ ثم يردد وزير خارجيته نفس المعنى تقريبا على مرأى ومسمع قادة العالم !
من جانبى، أتصور أن مؤتمر ميونخ للأمن، محاولة لتأسيس العالم الجديد الذى يعترف بشرعية الكيانات الإرهابية كإحدى الأدوات الاستعمارية الجديدة، كما يعترف بالدول راعية الإرهاب كأمر واقع، لكنه فى الوقت نفسه يعلن ضمنيا وفاة القانون الدولى والعودة إلى وضع ما قبل الحرب العالمية الأولى فى القرن الماضى عندما كان العالم غابة مفتوحة تتصارع فيها القوى الكبرى وتتقاسم الغنائم، وعلينا إذن فى هذا الوضع الجديد أن نبحث عن أمننا الوطنى والإقليمى وعن وسائل حمايته بكل السبل الممكنة.