فى عام 1991، انتهى المؤتمر الثانى للصحفيين المصريين إلى رفض فكرة تحويل المؤسسات الصحفية المملوكة للدولة إلى القطاع الخاص أو المشترك أو التعاونى وذلك بسبب المحاذير السياسية، التى يمكن أن تنشأ عن نقل الملكية إلى الأفراد، أيا كان الشكل القانونى، كذلك بسبب الحاجة إلى أداة إعلامية تؤدى الوظيفة الاجتماعية والسياسية التى يحتاجها الوطن فى مرحلة صعبة ودقيقة.. لكن لجنة الملكية والإدارة فى المؤتمر أقرت على استحياء بأهمية وجود توازن صحفى جديد يمكن أن ينشأ تدريجيا بإطلاق حرية إصدار الصحف ونمو القطاع الصحفى غير المملوك للدولة، وهو كما قالت اللجنة تطور صحى ومفيد.
هذا الكلام كان قبل 27 سنة بالتمام والكمال، وقتها لم يكن الإنترنت قد دخل كل البيوت، ولم تكن ثورة تكنولوجيا الاتصال قد تطورت ووصلت إلى المستوى الذى نعيشه اليوم، ولم تكن الصحافة الورقية فى مصر والعالم قد دخلت فى مرحلة الأزمة التى عبرت عن نفسها فى إغلاق كثير من الصحف والمجلات العالمية المرموقة، لذلك كان من الطبيعى ألا يدرك أغلب الصحفيين قسوة مستقبل معشوقتهم ومهنتهم الصحافة، حتى أنه عندما انفجرت أزمة القانون 93 لسنه 1995 الذى حاول تقييد حرية الصحافة وتضييق حرية الرأى والتعبير، انشغل الصحفيون بمعارضة القانون ومناقشة أوضاع المهنة من دون أن يهتم أغلبهم بتهديد تكنولوجيا الاتصال لوجود ومستقبل الصحافة الورقية، لقد ركزت الجماعة الصحفية فى المؤتمر العام الثالث للصحفيين- عقد فى سبتمبر 1995 - على ارتباط حرية الصحافة بمستقبل التطور الديمقراطى، وعلى ضرورة احترام حرية الرأى والتعبير وكفالة حقوق الصحفيين التى تقرها القوانين المصرية والمواثيق الدولية.
وكانت الورقة البحثية التى قدمها الكاتب الكبير صلاح الدين حافظ - رحمة الله عليه - فى مؤتمر 1995 من بين الأوراق المهمة والقليلة التى حملت رؤية وموقف ناضج وواعى بمتغيرات المستقبل، حيث أشار إلى أهمية وخطورة تحدى ثورة الإلكترونيات وعمليات الاندماج بين شركات تكنولوجيا الاتصال والإعلام، وتحدى الاحتكارات الكبرى فى عصر الخصخصة والعولمة.. وهى متغيرات قد تسمح مثلا لروبرت مردوخ إمبراطور الصحافة والإعلام بطلب شراء الأهرام أو غيرها من المؤسسات الإعلامية أو أن تتقدم إمبراطورية متعددة الجنسيات مثل «ديزنى لاند» بطلب إنشاء محطات تليفزيون فى مصر تتبع شبكتها الضخمة المنتشرة فى أمريكا والعالم.. هذه المخاوف توقعها صلاح الدين حافظ قبل 23 سنة، مؤكدا أنه طالما أن لدينا ليبرالية فى الاقتصاد وخصخصة ومواعيد متفق عليها مع صندوق النقد الدولى فيمكن أن نتوقع كل شىء!!
لذلك اقترح صلاح الدين حافظ لإصلاح أوضاع الصحافة الورقية والحفاظ على استقلالها وحريتها أن تتحول إلى صحف تعبر عن المجتمع وليس عن الحكومة أى تصبح صحفا قومية بمعنى الكلمة، ما يتطلب تغييرا جذريا فى ملكيتها وإدارتها ومفهوم رسالتها، وأضاف اقترح أن تتحول الصحف القومية «الحكومية حاليا» إلى شركات مساهمة يشترى العاملون فيها %51 من أسهمها ويطرح الباقى للاكتتاب، مع تحديد سقف أعلى لملكية الأسهم حتى لا يحدث احتكار أو تركز فى الملكية، وأن تنتخب هذه الشركات جمعيات عمومية ومجالس إدارات تعين رؤساء التحرير ومجالس التحرير. وأعتقد شخصيا أن بعض أفكار ومقترحات عمنا صلاح حافظ جديرة بالاهتمام رغم مرور قرابه ربع قرن، ورغم معاناة الصحافة الورقية وموتها البطىء أمامنا من دون أن يتحرك أحد، لذلك أرى أن خسائر صحف ومجلات الحكومة تتطلب إيقاف عديد من المجلات والإصدارات الورقية التى لا يقرأها أحد، وأنا أعرف أن هناك بعض الصحف والمجلات الأسبوعية التى تصدر عن مؤسسات صحفية كبيرة يزيد عدد العاملين فيها عن عدد قرائها!! لابد من احترام حقائق العصر بوقف هذه الإصدارات الورقية فورا مع تحويلها إلى إصدارات إلكترونية، وهو إجراء ممكن وتكلفته ليست كبيرة، ويحفظ لزملاء الصحفيين حقوقهم فى العمل والأجر والتأثير فى المجتمع، حيث سيقرأ أعمالهم ومقالاتهم عدد أكبر من القراء، وستعيش هذه الإصدارات الإلكترونية على الدخل من الإعلانات، ومع تطور الأداء من الممكن فرض رسوم قليلة يدفعها المتصفح مقابل قراءة الصحيفة أو المجلة الإلكترونية، وهذا يمكن أن نتصور وجود وانتعاش المصور إلكترونيا فقط ورزواليوسف الإلكترونية وآخر ساعة والأهرام العربى وغيرها من الإصدارات الأسبوعية التى بدأ الجمهور ينسى وجودها.
وأتمنى على المجلس الأعلى للإعلام والهيئة الوطنية للصحافة سرعة الأخذ بهذه المقترحات وإعادة قراءة بعض الأوراق المهمة التى ناقشها المؤتمر الثالث لنقابة الصحفيين عام 1995، لعلها قد تكون مفيدة، وفى هذا السياق أرى ضرورة تفعيل آلية مؤتمرات أبناء المهنة لمناقشة أوضاعها وأدعو نقابة الصحفيين ونقابة الإعلاميين إلى المبادرة بتنظيم مؤتمر مشترك بينهما للبحث فى مستقبل الصحافة الورقية والإعلام المصرى، خصوصا أن الهيئات التنظيمية الثلاث التى بدأت عملها منذ حوالى عام لم تقم بالمطلوب منها، الذى نص عليه الدستور بخصوص إعادة تنظيم الإعلام المصرى وضمان شفافية التمويل وتطوير الأداء والالتزام بالمهنية ومواثيق الشرف الإعلامى، علاوة على ضمان حرية الإعلام المصرى وتنوعه. وقناعتى أن هذا المؤتمر لا يهدد سلطة أو مكانة الهيئات التنظيمية الثلاث وأنما قد يدعمها، فتنظيم الإعلام وإنقاذ الصحافة الورقية من الموت عملية صعبة تتجاوز قدرات وسلطات الهيئات الثلاث وتتطلب مساهمة المجتمع بكل مكوناته وفى مقدمتها المجتمع المدنى، وفى القلب منه العاملون بالصحافة والإعلام، لأنهم يدافعون عن مهنتهم وحقوقهم فى العمل فى بيئة ملائمة تكفل حريتهم وحقهم فى العمل والعيش الكريم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة