لم يتوقف العالم عن التقلب والتحول خلال ستين عاما، ومنذ الحرب العالمية الثانية، حيث بدأت الحرب الباردة لتبدأ العولمة فى إعادة تشكيل شكل السلطة والسياسة والاقتصاد فى العالم. ويخطئ من يحاول تفسير ما يجرى فى مصر والشرق الأوسط والأدنى بمعزل عن السنوات الستين الأخيرة. لكن الفرق بيننا وبين أوروبا والدول الديمقراطية أنها كانت قادرة على استيعاب التحولات والتكيف معها أو تعديل المسارات السياسية بما يتلاءم من التحولات العاصفة. وكانت لدى الغرب طوال الوقت عملية تراكمية وخبرات تجمع بين النظرى والعملى. بينما نحن نقف عند نقاط ثابتة، ويظل التطور السياسى والاقتصادى بين صعود وهبوط. ويبدو الأمر وكأننا نبدأ فى كل مرة من جديد. يضاف إلى ذلك أن الحركات السياسية تفتقد إلى التمايز الذى يفرق بين التيارات السياسية والاقتصادية، وبالتالى فإن أى مراقب للتطورات ما بعد 25 يناير، يصعب عليه التمييز بين تيارات اشتراكية وأخرى ليبرالية، لأن كل اتجاه له أسسه النظرية التى ينطلق منها.
فقد كان هناك نوع من التفاخر بأن ميدان التحرير جمع كل الاتجاهات السياسية فى بوتقة واحدة، لكن ما أن بدأت السياسة، وقعت التيارات المختلفة فى حيرة وارتباك. فلم يبد أن لدى اليسار أو اليمين نماذج لما تريده وما تدعو له الجماهير.
شكلا لدينا أحزابا متعددة، تتوزع إلى يسار ويمين ووسط، وليبرالى ويمين بمرجعيات دينية، فضلا عن أن الأحزاب التقليدية التى مثلها الوفد والتجمع والناصرى والوسط، لم يظهر من بينها من يقدم رؤية سياسية أو اقتصادية، وكانت الديمقراطية عنوانا يصعب فيه التمييز بين تيار وآخر. ووسط هذا الزحام، كانت الحركات الاجتماعية قبل 25 يناير أكثر بروزا منها كفاية والوطنية للتغيير وحركات أخرى، لكنها كانت عبارة عن تجمعات لخليط لا تربطه سوى مطالب سياسية، من دون أى طرح اقتصادى.
اللافت للنظر أنه بالرغم من وجود انتماءات حزبية لأعضاء هذه الحركات، فإنهم فشلوا فى أن يقدموا أحزابا أو تيارات سياسية، وظلت تحركاتهم مجرد ردود أفعال، وافتقدت إلى وجود أسس نظرية تستند إليها، ويمكن أن تمثل حالة من تقريب وجهات النظر أو الحوار حول المستقبل.
أزمة الممارسة السياسية مطروحة لدينا وأيضا فى الغرب من تسعينيات القرن العشرين، وهجوم العولمة وتحولات السوق العالمية، وفى حين اعتبر منظرو الرأسمالية سقوط سور برلين علامة على انتهاء الفكر الاشتراكى وسيادة نهائية للرأسمالية أو « نهاية التاريخ»، كما أعلن فرانسيس فوكوياما، لكن حتى هؤلاء اكتشفوا أن ما ظنوه نهاية التاريخ هو تحول انتقالى، فقد واجه المعسكر الرأسمالى أزمة عالمية وحل الاقتصاد كمحرك للسياسة، وبدت الصين وجنوب شرق آسيا كنماذج للتفوق المختلف عما تصوره فوكوياما نظرية نهاية التاريخ.
ومع التسعينيات تراجعت السياسات الرأسمالية التى اجتاحت أوروبا وعرفت بالتاتشرية وظهر فى أوروبا نوع من «الديمقراطية الاجتماعية»، كان منظرها الرئيسى البريطانى أنتونى جيدنز والذى أصدر فى نهاية التسعينيات كتابه «الطريق الثالث.. تجديد الديمقراطية الاجتماعية». حيث بدا أنه لا انتصار للرأسمالية أو هزيمة للاشتراكية، وظهور خلطة سياسية اجتماعيه تتجاوز الأشكال الثابتة من الديمقراطية الانتخابية إلى أهمية تطبيق سياسات اجتماعية تعالج الاختلالات لتكافؤ الفرص والخدمات، وتتعامل مع تحولات السلطة وعولمة السياسة.
اتبع حزب العمال نظرية الطريق الثالث بعد الحرب الباردة، وفاز مع تونى بلير واستمر لأكثر من عشر سنوات. وهى نفس السياسات التى اتبعتها الديمقراطيات الأوروبية خاصة ألمانیا، وأحزاب أخرى فى أمريكا اللاتینیة وآسیا وأسترالیا وكندا، حیث شكل «الطریق الثالث» مصدر إلهام ومحرك تجدید قادها إلى انتصارات انتخابیة.
ومن حيث نجحت الأحزاب الأوروبية فى التكيف واستمرت السياسة فى الشرق الأوسط جامدة، لكن افتقدت الأحزاب إلى أسس يمكنها التعامل مع التحولات، ولهذا تساقطت السلطات المتسلطة، بينما وقفت التيارات السياسية عاجزة عن طرح البديل. وهو ما خلق فراغا واضحا. جعل الأحزاب تقف عند رد الفعل اليومى، من دون أن تمتلك قدرة على طرح أفكار أو حلول لما يواجه الدول من مشكلات. ولهذا سرعان ما فقد السياسيون جاذبيتهم، بعد أن عجزوا عن استغلال فرصة ما بعد الربيع العربى. خاصة أن الدول التى واجهت التحول، تعانى من اختلال مزدوج، فى بنية اقتصادية ضعيفة وبنية سياسية غائبة أو تائهة.