فى كل مفترق طريق تتكشف لك خيبة جديدة من خيبات أهل السياسة والتيارات الحزبية المختلفة، مواقفهم مخذلة، وكثير من أطروحاتهم محملة بحسابات مصالحهم الشخصية أو تياراتهم السياسية.
ينشطون فى صراخهم وتضامنهم وإدانتهم للإرهاب حينما تضرب أحد حوادثه عاصمة أوروبية، يحدثونك عن التضامن والضحايا والبطولات فى المواجهة، وعن الإرهاب كظاهرة عالمية خطيرة، بينما هم أنفسهم يقدمون التعازى على استحياء، ويحدثونك عن التقصير والعنف الذى يولد العنف حينما يضرب الإرهاب فى أرض مصرية ويحملون السلطة مسؤولية الإرهاب الذى كان من قبل ظاهرة عالمية.
يقتل الإيطالى جوليو ريجينى فى ظروف غامضة، ويدفع كل خصوم الوطن فى اتجاه إدانة مصر وإرباكها بسبب هذا الحادث، يظهر النشطاء والسياسيون والحزبيون فى مصر بصراخ التضامن مع الضحية الإيطالى ويشعلون الشموع أمام السفارات ويبذلون الجهد فى مراسلة الصحف الإيطالية للتضامن مع الضحية وأهله، بينما هم أنفسهم تتلاشى أصواتهم وتختفى شموعهم ووقفاتهم الاحتجاجية أمام السفارات، ويتوه كلامهم عن حقوق الإنسان حينما تقتل فتاة مصرية فى لندن، ولا يخرج من منظماتهم بيان واحد لإدانة الحكومة البريطانية أو التضامن مع ابنة وطنهم.
الأمر مثله يتكرر فى مسألة المشاركة الانتخابية، يحدثك النشطاء والمعارضون فى مصر بانبهار عن نسب المشاركة فى البلدان الأخرى، يكتبون الدراسات عن الأمل فى مستقبل أفضل بنسب مشاركة أعلى فى الانتخابات والعملية السياسية عموما، على مدى سنوات طويلة ماضية كانوا يصرخون بضرورة نزول المواطن المصرى إلى صناديق الاقتراع حتى يكتسب صوته مع مرور الوقت قيمة قادرة على التغيير، ولكنهم هم أنفسهم حينما تغيب مصالحهم ويغيب مرشحوهم ويعجزون عن التواجد فى بؤرة العملية الانتخابية يرفعون راية المقاطعة وكأنها الحل، بل ويقمعون صوت المواطن الذى يريد المشاركة بتبريرات تتغير وفق الهوى، تارة انتخابات معروفة النتائج، وتارة المشاركة لن تغير شيئا، وتارة أخرى بالتشكيك فى المسألة كلها.
المدهش فى أمر نخبة المعارضة والنشطاء فى مصر أنهم استدعوا فكرة المقاطعة أكثر من مرة بعد 25 يناير 2011 وفشلت فى أن تحقق النتائج التى وعدوا الناس بها، بل ساهمت فى فتح المجال أمام تيارات متطرفة كادت أن تخطف مصر لولا تحرك الشعب ومساندة الجيش فى 30 يونيو، وما يعمق فكرة الدهشة هو عودة النشطاء والمعارضين إلى نفس نغمة المقاطعة وتحريض الناس على عدم المشاركة فى الانتخابات الرئاسية الحالية، رغم أنهم فى كتبهم ودراساتهم وأبحاثهم أخبرونا من قبل بأن المشاركة فى حد ذاتها حق وواجب وتدعيم للعملية الديمقراطية.
ومن عجيب الأمر أن تتحول فكرة المشاركة السياسية وممارسة الحق الانتخابى إلى وجهة نظر، تجوز فى بعض الأحيان، ولا تجوز فى أحيان أخرى على حسب المصلحة.
المشاركة السياسية، وتشجيع الناس على معرفة الطريق إلى صناديق الانتخابات حلم نعيشه ونأمله منذ عشرات السنوات، وتنفق بعض البلدان المليارات لتعزيزها، ونحن فى مصر أنفقنا المال والدم من بعد 25 يناير حتى يعرف المواطن طريقه إلى صناديق الاقتراع.
والعجيب أيضا أن أغلب الأصوات التى تحرض الناس الآن على مقاطعة الانتخابات وعدم المشاركة هى نفسها التى طالما صرخت لعقود من أجل تشجيع المصريين على التصويت والمشاركة فى الانتخابات، وكأن الفعل الديمقراطى ليس هو الغاية فى حد ذاته، بل المصلحة، يشجعون الناس على النزول والحشد إذا كان ذلك فى مصلحة النشطاء والتيارات السياسية، ويحرضونهم على فقدان حق اكتسبوه بعد ثورتين إذا غابت مصلحة تياراتهم، رغم أن مصلحة الوطن فوق الجميع.
تشجيع الناس على معرفة طريق صناديق الاقتراع سواء كانت انتخابات هادئة أو ساخنة هو أول طريق بناء الدولة القوية، لأن المواطن الذى اعتاد أن يذهب إلى صناديق الانتخابات مع مرور الوقت سيفرض نمطا انتخابيا يعترف بصوته، ويحول الساحة فى ظروف طبيعية ومستقرة إلى ساحة ممارسة انتخابية قادرة على إفراز نتائج لصالح الوطن.
انفض عن نفسك غبار ما يتم ترويجه على ألسنة النشطاء والمحسوبين بالخطأ على الساحة السياسية، وتجاهل الرداحين فى فضائيات الإخوان، وانزل وشارك بصوتك فى الانتخابات، أخبر الصندوق برأيك، حتى ولو كنت من المعترضين أو الرافضين، أخبر الصندوق باعتراضك فهو يحول رأيك إلى أرقام مهمة تساعد فى تصحيح المسار، هم جربوا دعواتهم للمقاطعة وخسروا وأفقدوا الدولة الكثير من الوقت، وتذكر أن مصر تعبت ودفعت من دم أولادها واستقرارها الكثير من أجل فكرة المشاركة وصناديق الانتخابات.
انزل وشارك، فلا يوجد شىء اسمه انتخابات هادئة وانتخابات ساخنة، شارك، لأنه بالممارسة وحدها سيصبح صوتك رقما مهما فى المعادلة، ولأن الصوت العطلان بفعل المقاطعة أو الاستهتار يفقد قيمته مع مرور الزمن.