تبدو حالة الهجوم التى تعرض له مسلسل "صيف بارد" غير مبررة، بل إنها لا تستند إلى المنطق بالمرة، إثر موجه من الاعتراضات والانتقادات التى طالته، من ضمنها افتقار طاقم العمل إلى ممثلين سعوديين، والاستعانة بطاقم عربي، ليس ذلك فحسب، فالأسباب التى أدت إلى إيقاف العمل تتعدد يومًا بعد يوم، ومن ضمنها انتشار مقطع من العمل يوحى بأن أحد أحلام الفتيات السعوديات هو الذهاب إلى ملهى ليلى، هذا المقطع رفع وتيرة الاعتراضات على العمل، بحيث ارتفعت حدة الأصوات المطالبة بإيقاف عرض المسلسل على شبكات التواصل الاجتماعى، الأمر الذى دفع كاتبة رواية "سعوديات" المأخوذ عنها المسلسل "سارة العليوي" إلى القول: "هل التحدث عن الواقع جريمة ؟ هنا مربط الفرس، مجتمعنا فى جزء منه يعانى من الازدواجية، أفعل فى الخفاء ما أريد، وفى الظاهر أتماشى مع رغبات المجتمع وعاداته وتقاليده، أسافر ويسافر غيرى كثيرا خارج البلاد، ونرى نماذج تمثلنا، وأخرى نستنكرها، لسنا منزهين عن الخطأ، هناك محجبات وهناك غير محجبات، إن إنكار أبسط الأشياء التى يفعلها شبابنا وبناتنا فى الخارج هو رغبة من البعض فى عدم تصديق التحول الذى طرأ على المجتمع السعودى منذ عقد من الزمن".
والواقع إنه عند مشاهدتى للحلقات المذاعة قبل توقف العمل لاحظت أن المسلسل ينتمى لفئة الأعمال التى تعبر عن فتيات من أكثر من جنسية عربية وليست السعوديات وحدهن، والحقيقة إن تعبير مثل هذه الأعمال عن الواقع يثبت جديا أن "الفن لا وطن له ولا يقول من أنت ولكن ماذا تقدم؟.
كما لاحظت أيضا من السياق الدرامى للأحداث أن الشخصية الموجودة فى الرواية والمسلسل بدور ليلى، والتى جسدتها بإجادة تامة الفنانة المغربية "مريم حسين"، وأبرزت قدرة الممثل التعبيرية التى تكمن فى توظيفه للطبيعة التشكيلية فى جسده، مؤمنًا بقدرة هذا الجسد الإنسانى على التعبير عن أدق المشاعر والأحاسيس الإنسانية وأيضًا عن العلاقات بين البشر بعضهم وبعض، بحيث تمكنت من أن تعبر من خلال الدور عن رد فعل روحى معين، وأظهرته بعناية فائقة للجمهور، لتعكس جوهر تلك الشخصية الحقودة والسيئة، والتى هى فى الواقع لا تمثل كل السعوديات - بحكم أننى عشت فى المملكة لأكثر من أربع سنوات تعرفت خلالها على كثير من التفاصيل التى تمس العادات والتقاليد المخلوطة بتعاليم الدين الإسلامى السمحة - بل هى حالة درامية يمكن مصادفتها فى الداخل كما يمكن مصادفة حالات أخرى تتشابه معها فى الصفات أو تختلف، ما يؤكد أن صاحبة رواية "سعوديات" رصدت بحسها الأدبى الصادق نماذج سلبية وأخرى إيجابية، وربما كانت نهاية دور مريم حسين - الذى لم ولن نراه بعد توقف المسلسل للأسف - تبدو فيها عبرة، كنموذج لشخصية أخطأت واعترفت بذلك، وتحولت فى الأخير إلى نموذج إيجابى، وهو الأمر الذى كشف لى فى النهاية أن الناس تهاجم العمل من أجل الهجوم عليه فقط لا أكثر، ما يؤكد أن هناك أصابع خفية خلف الهجوم، لأن الشعب السعودى واعٍ ومثقف، فكيف ينساق خلف حملات وهمية الغرض منها تشويه الدراما السعودية ؟.
معروف أن الرواية صدرت فى العام 2006، وأعيدت طباعتها مرات عدة، ولكنها لاقت كل هذا الهجوم بمجرد تحولها إلى عمل درامى، ما لا يدع مجالاً للشك عندى أن هناك ما يدور خلف الكواليس، إذ قد تكون تصفية حسابات من داخل الوسط أو خارجه، على الرغم من إجادة كافة طاقم العمل لأدوراهم، وهنا أشيد بالممثلة البحرينية الشابة "شيلاء سبت" فى أداء سلسل وبسيط للغاية لشخصية سيدة الأعمال السعودية "ياسمين العنيد"، ما يثبت امتلاكها لغريزة تمثيلية سليمة، حيث ركزت على الجوانب النفسية للشخصية، ومن ثم إبرازها عن طريق الجسد أى "من الداخل إلى الخارج، فى إشارة واضحة إلى أن التعبير الجسدى لها كممثلة تتمتع بالهدوء النفسى يتبع إعمال الذهن، ويأتى تجسيدًا للعواطف والانتقالات المحفزة له على الإتيان بالفعل، الذى يبدو للمتلقى حاملًا دلالات كثيرة ومعبرة للغاية، وهى فى ذلك تبدو محاكية للواقع، بعد إعادة صياغته وتهذيبه وسعيها الحثيث لتحقيق الأهداف التى تسعى إليها الشخصية عبر مجموعة من التقنيات، التى ضمنها ما يعرف بـ "الواقعية النفسية"، وفى نفس الوقت اعتمدت على التقنية الخارجية وهو الاتجاه، الذى يهتم بتنمية قدرات الممثل الجسدية والاعتماد على الجسد فى التعبير عن الانفعالات الداخلية، وعلى قلة حجمها فى الواقع الفزيائى إلا أنها استطاعت أن تملأ الفراغ بشخصية تبدو عملاقة بحسن أدائها الذى يبرز تحديها كسيدة أعمال فى مجتمع ذكورى لا يقيم وزنا لمثل تلك النساء اللاتى فى الغالب يتفوقن على الرجال فى مجال البيزنس .
وعلى مستوى الأداء الفائق الجودة أيضا يأتى دور العمانى "إبراهيم الزدجالي" فى تجسيده لشخصية فنان تشكيلى يعيش فى أوروبا بإجادة تامة - رغم ظهوره فى عدة مشاهد قليلة للغاية - فى إشاراته وايماءته العابرة للغة جسد الممثل الدالة على استيعابه الجيد جدا للشخصية التى يؤديها فى علاقتها بالمجتمع الذى يعيش فيه، وهو هنا يسعى عبر مشاهد متناثرة إلى تطوير أسلوب أداء تمثيلى يعتمد على عنصر التجسيد، وليس على مجرد التفسير الصادق للشخصية الدرامية، وكذا الحال مع "شيماء سبت" فى أداء رائع لدور الأم التى تعكس تربية عصرية لأبنائها وبناتها فى إطار من الحزم والصرامة المطلوبة فى بعض الأحيان، خاصة مع ابنتها الصغرى التى تقوم بدورها "وعد محمد" بأداء سهل وبسيط، وهو ما يعكس جوهر التقاليد المجتمعية التى يسعى المسلسل لترسيخها طوال الوقت، بينما يأتى أداء السعودية "نرمين محسن" مناسبا تماما لشخصية فتاة صغيرة تتسم بالتمرد والعصبية قبل أن تلجمها قصة حب سريعة تحدث تحولا كبيرا فى حياتها، وكذا شقيقها عبد الله الذى يجسد شخصيته بطريقة كوميديا محببة للقلب "شعيفان محمد"، ويبقى فى قائمة الأداء الجيد والمتوازن دور الممثل "أحمد شعيب" لدور رجل الأعمال الشاب اللاهى " خالد " قبل أن يقع فى براثن حب سيدة الأعمال " ياسمين " لتنقلب حياته رأسا على عقب .
المسلسل يرصد فى طياته كثيرا من الظواهر الإيجابية التى تحسب له كعمل سعودى بامتياز، حيث يتضمن العمل صورة جميلة لعلاقة الأخ بأخته فى لفتة مميزة، كعلاقة خارجة عن الصورة النمطية المعتادة، بشكل لطيف وبمنظار جديد، ليؤكد صدق مقولة المؤلفة "نحن فى زمن الانفتاح على جميع الصعد، ونحن فى السعودية بلباسها الجميل، بعيداً كل البعد عن التطرف والجهل"، فهو ينطلق من خلال حبكة درامية لصديقات سعوديات وعربيات يقضون إجازه الصيف فى أوروبا وبيروت، ومن خلال تلك الإجازة تتخذ كل شخصية خياراتها الخاصة وقراراتها المرتبطة بتفكيرها الشخصى، هناك الجيد والسيئ، هناك الخير والشر، هكذا هى الدراما صراع بين النور والظلام، وفِى النهاية لا يصح إلا الصحيح، كل ذلك جاء ضمن سياق الأحداث فى أجواء درامية جديدة على الدراما السعودية والخليجية عموما، ومن منطق مختلف عن الميلودراما المعتادة فى المعالجه الفنيه للمسلسل، وللعلم الدراما السعودية نفسها تحدثت فى أعمال سابقة عن قضايا هامة وأكثر جرأة كالمثلية الجنسية والمخدرات ومواضيع أخرى لا توجد فى سياق "صيف بارد"، الذى يقدم لنا السعودية الجديدة التى نتطلع إليها من خلال أفضل الأعمال الروائية لما تتميز به من مساحات درامية وأجواء خاصة، وهذا العمل الروائى يستغرق فى التفاصيل ويبرز المشاعر والأفكار الإنسانيه بشكل عميق، وربما تتأكد أكثر مع الموسيقى التصويرية البديعة لـ"نديم سراج".
هنالك حقيقة أخرى مهمة مفادها : إن تحويل الأعمال الروائية إلى أعمال تلفزيونية ذات قيمة خاصة ونقل إبداع من لون روائى الى دراما تلفزيونية ينطلق من معطيات الرواية ويحقق مصداقية أكثر وذات عمق فنى ووصف مفصل للشخصيات وأماكن التصوير وأدق التفاصيل والإكسسورات، وربما كان لإشراف المخرج "إياد الخزوز" هنا دور محورى فى توفير كل الظروف الممكنه لتحقيق متطلبات الرواية، بحيث أتاح كل شىء تقنى وفنى لإنجاح المسلسل فتم التصوير بسويسرا وبيروت وأبوظبى والرياض وتوفير أماكن تصوير جديدة ومبهرة، وتم التعاقد مع فنانين سعوديين وعرب على أعلى المستويات لتحقيق النجاح الفنى والجماهيرى للمسلسل، والذى يعبر بالضرورة عن المرأة السعودية والعربية على حد سواء، ليبدو عملا فنيا إنسانيا بالدرجة الأولي.
يقول مخرج المسلسل ماجد الربيعان: أنا أحببت الرواية التى أبدعتها كاتبة سعودية وما تقدمه من أجواء خاصة بفئة معينة وشخصيات محددة فى فرضيات درامية للشخصيات واحترمت خيارات الشخصيات، وحاولت أن أقدمها بالشكل المناسب لكل شخصية وما يجعلها حرة ومنطلقة سواء فى الشكل أو التمثيل، وحرصت أن تكون ضمن إطارها الحقيقي، ولا تمثل أحد إلا نفسها هى وليس الشعب السعودى أو العربى كما يشاع، فالإنسان هو الإنسان بأى بلد ومكان يحب ويكره ويغضب ويسامح وليس هناك خصوصية لبلد عن بلد فى المشاعر الإنسانية.
رأيى هنا يتفق تماما مع رأى المؤلفة والمخرج فى أن هذه الحملة تفنن صناعها فى اختلاق الكذب وقلب الحقائق وتشويه صورة العمل، واستخدام سيئ وخطير لوسائل التواصل الاجتماعى لمحاباة أطراف معينة، ووقوف سافر فى وجهه الفن والثقافة والتطور الاجتماعى والفكرى الذى تعيشه المملكة العربية السعودية حاليا، وتبدو الأزمة الحقيقية لما يحدث حاليا أن البعض تخيل أن وسائل التواصل الاجتماعى جعلت البعض يظن أنها منصة لإطلاق الأحكام والهجوم على الأشخاص كما يشاء، رغم أن المسلسل من وجهة نظرى يبدو فى ظاهره يعالج قضايا مهمة فى الداخل السعودى هى فى تماس حقيقى مع قضايا الشارع العربى، كما يبدو فى جوهره ترويجا سياحيا بامتياز على جناح تصويره الحى لشوارع الرياض، حيث يعكس الجانب الحضارى للمبانى والمعالم المميزة للمدينة التى تبدو فى غاية فى الجمال، برونق عصرى أحدث الدهشة والإبهار لعيون المتفرجين لأول مرة يشاهدون ملامح تلك المدينة التى تعد رمزا حضاريا لعاصمة المملكة العربية السعودية.
كما أضم صوتى مرة ثانية إلى صوت كاتبة الرواية المأخوذ عنها المسلسل "سارة العليوي" التى تصف الهجوم بأنه تصفية حسابات من البعض داخل الوسط الفنى نفسه، بالإضافة لبعض رافضى توجهات المملكة العربية السعودية الجديدة من انفتاح على الآخر وتسامح وتطور وتقدم، خاصة وهى تقيم تجربتها فى تحويل روايتها لعمل درامى، حيث تقول : أحيانا يكون التحويل موفق وأحيانا لا وهذى حقيقة، وقد لامسناها لدى أسماء روائيه كبيره فى الوطن العربي، أما عن مسلسل "صيف بارد" فأجده نموذج أكثر من جيد، حيث إنه قد احترم المشاهد بتقديم صوره فخمة للمجتمع السعودى، وقدم نجوم شباب سعوديين للوسط الفنى، والأهم من ذلك هو تبنى رواية سعودية وتحويلها وهذا تحدى كبير يحسب للقائمين على المسلسل، وعن وصفها لمن يعبر عنه العمل هل هو عن المرأة السعودية خاصة أم العربية بصفة عامة ؟، تقول عليوى عن كليهما بلا شك، فنحن نتشابه فى العادات والتقاليد مع اختلاف الجغرافيا، والسيئ والجيد متشابه كذلك فى بعض التفاصيل.. نعم نحن نتشابه فى وطننا العربى فى أوجاعنا وهمومنا وفى إبداعنا الفنى أيضا، فتحية تقدير واحترام لصناع هذا العمل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة