أعترف، كان التوتر ضيفًا دائمًا فى معرفتى بالخديو إسماعيل، أحبه إلا قليلًا، وأحترمه إلا قليلًا، وأرجعت ذلك إلى إسرافه الشديد الذى أدى بمصر إلى كثير من الأزمات، وكان سببًا رئيسيًا فى احتلالها وجعلها خاضعة لقوى أجنبية بعدما كانت سيدة فى ذاتها، وندًا قويًا لدول العالم الكبرى فى عهد جده محمد على باشا.
ومما صنع جدارًا من العزلة بينى وبين إسماعيل أننى تعاملت معه بصفته رجلًا حالمًا فقط يريد شيئًا لا طاقة له به، يخالف واقعه ولا ينتبه إلى أزماته، لكننى مؤخرًا رأيت حزنه، فقد كنت أقرأ عنه بمناسبة ذكرى رحيله، فأبصرت صورة له فى إسطنبول أقل ما توصف به أنها «مزعجة»، فخديو مصر يجلس على كرسى وفى عينيه حزن العالم وفى جسده المرض، وملامحه توحى لك بأنه تجاوز المائة عام، وطبعًا سوف تفاجأ عندما تعرف أنه مات ولم يتجاوز عمره 65 عامًا.
النظرة التى رأيتها فى عينيه جعلتنى ألمح الجانب المضىء الذى رآه إسماعيل وحلم به، كما أن قليلًا من التأمل فى مبانى القاهرة الخديوية كان كفيلًا ليصيب قلبى بالفرح ويحسن مفهومى عن الجمال، ويجعلنى أدرك المغزى الحقيقى من وراء كل فعله، فقد كان إسماعيل يسعى لمضاهاة المدن العالمية، مثل باريس ولندن، لذا أحضر الفخامة والأبهة فى المعمار، ومنح تسهيلات فى البناء شريطة المحافظة على الشكل الجمالى، وقد كان، وصارت لدينا تحف لا يمكن تجاهلها فى المنطقة التى نسميها نحن الآن وسط البلد.
وفى أثناء ذلك تجاوز مفهوم الجمال عند إسماعيل «الحجر» إلى «البشر»، فبدأ تعليم الفتيات يأخذ مكانًا حقيقيًا وسط المصريات، وبدأت الموسيقى تصدح فى الأوبرا التى صارت قبلة لمحبى الفن، وظهرت دار الكتب بما فيها من وثائق ومخطوطات، واتسعت مساحة الأرض الزراعية بعد شق ترعتى الإسماعيلية والإبراهيمية، كما كان نتاج عصر الخديو إسماعيل جيلًا من المفكرين والمثقفين، على رأسهم محمد عبده، وقاسم أمين، وسعد زغلول، وعبدالله النديم، الذين أثروا حركة فكرية ما نزال حتى يومنا هذا نتأملها ونناقشها ونستفيد منها.
من سوء حظ إسماعيل أنه حلم وحيدًا، وأوقد مصباحًا كان زيته غير متوافر فى يده، فلجأ إلى الآخرين فى الغرب الذين أضمروا احتلال مصر والسيطرة عليها، والتدخل فى شؤونها، لذا مدوا أيديهم بعنف فى صدر إسماعيل ونزعوا قلبه وتركوه وحيدًا فى إسطنبول ينتظر الموت.