يتناول فيلمان فازا بجوائز الأوسكار حدثا وقع قبل نحو 78 عاما، ألا وهو معركة "دنكيرك" أو الإخلاء البريطانى الناجح لـ 300 ألف من الجنود البريطانيين من على ضفاف القارة العجوز وتحديدا فى مدينة "دنكيرك" على الساحل الفرنسى، وإعادتهم إلى بلدهم الأم بعد أن تمكن هتلر وقوات المحور من احتلال كامل أوربا باستثناء بريطانيا، وذلك بحلول صيف عام 1940.
المعركة أو "الإخلاء" دار خلال الفترة من 26 مايو وحتى 4 يونيو من عام 1940، إذ تمكنت قبلها قوات النازيين من الالتفاف على "خط ماجينو" الدفاعى شرقى فرنسا، واجتياح هولندا وبلجيكا وفرنسا التى تهاوت دفاعاتها فى أيام قلائل، ليجد الألمان أنفسهم فى قلب باريس، أما القوات البريطانية التى كانت موجودة على أرض القارة الأوربية فقد أضطرت للتراجع معركة بعد أخرى، حتى وجد الجنود البريطانيون أنفسهم فى نهاية المطاف موجودون داخل مدينة صغيرة على شاطئ القنال الإنجليزى من ناحية فرنسا تسمى "دنكيرك" أو DUNKIRK فيما تحوم فوقهم طائرات الألمان التى تمنع السفن الكبيرة من الوصول إلى الشاطئ للقيام بعملية إجلاء للثلاثمائة ألف جندى بريطانى، والذى بدا أنهم سيقعون بين لحظة وأخرى ضحايا الأسر أو حتى القتل البطيء على يد الألمان الذين تسلوا بقتلهم من السماء عبر الطيران.
لقطات حقيقية لإخلاء دنكيرك
دارت المعركة فى مكانين مختلفين، الأولى كانت معركة سياسية أدارها وينستون تشرشل ضد غالبية الساسة البريطانيين الذين رأوا ضرورة استسلام إنجلترا للقوات الألمانية والرضوخ لإملاءات هتلر، وهو ما دارت أحداثه فى فيلم THE DARKEST HOUR أو "ساعة الحسم" والذى حصل على جائزتى أوسكار، الأولى لأحسن ممثل ومنحت للمثل البريطانى "جارى أولدمان" وجائزة أحسن أفضل ماكياج.
بوستر فيلم لحظة الحسم
أما المعركة الإنسانية التى كان أبطالها من الجنود اليائسين الذين يحاولون بشتى السبل الخروج من هذا المأزق والاستبسال للدفاع عن مواقعهم الأخيرة، والبطولة الشعبية التى صنعها أصحاب القوارب الصغيرة والذين ساهموا بشكل أساسى فى إنقاذ الجنود، فقد تم سردها فى رائعة المخرج "كريستوفر نولان" فى فيلم حمل نفس اسم المعركة DUNKIRK، والذى فاز بثلاث جوائز أوسكار، وهى أفضل مونتاج، وأفضل ميكساج وأفضل مونتاج صوتى.
بوستر فيلم دانكيرك
واستطاع صناع فيلم "THE DAEKEST HOUR" أو ساعة الحسم إظهار جانبا آخر لرئيس الوزراء البريطانى "وينستون تشرشل" لم نعهده من قبل، ولم يعرفه الناس عنه، وهو المعروف بالشخصية القوية والكاريزمية، وعدم اكتراثه بالصورة الذهنية عنه لدى الآخرين، إذ يظهر اللحظات التى تولى فيها تشرشل خلفا لسلفه نيفيل تشامبرلين، والذى ورط بريطانيا فى كارثة عسكرية وهزائم قوية فى بداية الحرب العالمية الثانية، ورغم ذلك حاول أن يفرض وجهة نظره بوجوب الاستسلام البريطانى لألمانيا.
وينستون تشرشل كما ظهر فى فيلم ساعة الحسم
من وراء الكواليس وفى لجنة الحرب حاول تشامبرلين الدفاع عن سياسته الطويلة التى مارسها لمحاولة استرضاء هتلر والموافقة على أطماعه التوسعية بغية اجتناب الحرب التى وقعت فى النهاية، يتولى "تشرشل منصب رئيس الوزراء فى لحظة الهزائم المتتالية، ويحاول أن يرفض التوجه العام لدى الساسة البريطانيين بالاستسلام، لكنه يواجه بهزائم سريعة وخاطفة فى بلجيكا وهولندا وأخيرا فرنسا، ليجد نفسه فقط بعد أسبوعين من توليه المنصب أمام حصار لكامل جيشه فى جيب صغير على ساحل القناة الإنجليزية.
يوضع تشرشل أمام اختبار حاسم، هو إما أن يستسلم للألمان كما يطلب أغلب قيادات حزبه ( المحافظين ) والذى يشكل الأغلبية فى البرلمان الإنجليزى، أو أن يمضى قدما فى محاولة إخلاء الجنود فى محاولة جنونية للخروج من الحرب، واستحق "جيرى أولدمان" جائزة أحسن ممثل فى دور رئيسى عن جدارة، فقد استطاع لأول مرة تقديم شكل جديد لوينستون تشرشل غير المعهود له، فهو فى النهاية إنسان يجد نفسه فى لحظة عصيبة وقرار عليه اتخاذه فإما أن يصير بطلا أو أن يصير الرجل الذى تسبب فى أكبر مذبحة لجنود بريطانيين فى التاريخ الحديث، نجد تشرشل "الضعيف" يتوسل للرئيس الأمريكى فرانكلين روزفلت لتزويده بالأسلحة، فيما يرفض روزفلت الذى كانت بلاده فى هذا الوقت على الحياد.
يقدم لنا "أولدمان" الحيرة والخوف من اتخاذ القرار، وكل ذاك الضعف الإنسانى المؤسف والجميل فى الوقت ذاته، فى شخصية رجل لم يسمح لنا من قبل أن نرى ضعفه الإنسانى.
جارى أولدمان ينال أوسكار عن أداء شخصية تشرشل
أما فى "دنكيرك" – الفيلم وليس الموقعة – فإن البطولة للجنود المحاصرين على الأرض، حيث يدور الفيلم فى ثلاث أماكن هى "البر، والبحر، والجو" فى ثلاث أوقات منفصة، فالقصة فى البر وهى قصة الحصار ومحاولة الخروج عبر السفن الكبيرة، وتفادى قصف الطائرات تدور فى أسبوع، أما القصة فى البحر وهى قصة استجابة أصحاب القوارب الصغيرة للنداء الصادر عن القيادة البريطانية للمشاركة فى إخلاء الجنود، بعد أن عجز ميناء دنكيرك من استقبال السفن الكبيرة، خاصة فى ظل وجود حطام السفن المدمرة بالقرب من الأرصفة الحربية، وهى تدور فى يوم واحد، أما القصة الثالثة فتدور حول بطولات الطيران الإنجليزى فى مواجهة الخطر الرهيب لطائرات "ستوكا" الألمانية، تلك الأسطورة المخيفة التى طالما حملت الرعب لدول الحلفاء خلال الحرب وضمنت تميزا ألمانيا فى الأجواء طوال المرحلة الأولى من الحرب فتدور فى ساعة.
المدنيين يشاركون فى إجلاء الجنود مشهد من فيلم دنكيرك
الفيلم الذى ظل فكرة معلقة فى ذهن مخرجه "كريستوفر نولان" لـ 25 عاما قبل أن يتمكن أخيرا من تنفيذه، يتناول أيضا الضعف الإنسانى من جانب آخر، فهو يظهر مواطن الأنانية فى بعض الجنود أثناء مواجهة خطر الموت وبشاعة الحرب ولا إنسانيتها، وكذلك الاستبسال الشجاع للمواطنين العاديين لإنقاذ جنودهم من على الشاطئ.
ولعل الصورة غير النمطية للمعارك الحربية والتى قدمها بها "نولان" فيلمه، عبر سيره فى ثلاث محاور زمنية مختلفة، وكذلك عدم استخدامه الكثير من الجمل الحوارية والاعتماد على رواية الصورة، هو ما أبعده عن الجوائز الأساسية للأوسكار رغم استحسان الجماهير والنقاد لفيلمه فى أثناء عرضه، خاصة أنه قد نجح فى تنفيذ فكرته فى إخراج فيلم حربى لا يوجد فيه مشهد واحد للدماء.
ويتبقى فى النهاية حقيقة عن المعركة لم يذكرها الفيلمين، هو أن هتلر اتخذ قراره الأكثر غموضا فى أثناء الحرب، هو أمره بوقف الهجوم على دنكيرك، ما مكن البريطانيين من سحب 300 ألف جندى من على السواحل، ولم يستطع أحد تفسير قرار هتلر هذا مطلقا والذى يعتقد الخبراء العسكريين أنه لو لم يتخذه لانتصر فى الحرب فورا، فهناك من رأى أنه كان يكن احتراما خفيا للبريطانيين معتبرا إياهم من أصول "جيرمانية"، أو أنه كان لا يريد دحر البريطانيين عن أكملهم ولكن إعطائهم فرصة للأستسلام المشرف، لكن هذا القرار الغامض دفن سره مع موت هتلر فى نهاية الحرب.
وايا كان ما رأيته على الشاشة، لكن عليك أن تعرف أن رئيس الوزراء البريطانى وينستون تشرشل اعتبر ما جرى فى "دنكيرك" كارثة عسكرية ضخمة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة