لا أحد يستطيع الجزم بنهاية متوقعة لأزمة تسميم الجاسوس الروسى المزدوج، سيرجى سكريبال، فى بريطانيا، فهى تكبر وتتضخم مثل كرة الثلج، دول أوروبية بجانب الولايات المتحدة الأمريكية أعلنت تضامنها مع بريطانيا وطردت دبلوماسيين روس من أراضيها، فردت موسكو بالمثل، وإن زادت فى عدد الدبلوماسيين الأوروبيين والأمريكيين المطرودين من على أراضيها، وكأنها تقول لهم إن روسيا أقوى منكم جميعاً، تطردون روسى فيكون الرد بطرد اثنين أو ثلاثة من دبلوماسيكم.
الأزمة بدأت فى 4 مارس الماضى، بهجوم بغاز أعصاب على الجاسوس الروسى المزدوج سيرجى سكريبال فى بريطانيا، أعقبه توجيه أصابع الاتهام لموسكو، وهو ما نفته روسيا، لكن بريطانيا قررت الاستمرار فى معاقبة روسيا بطرد عدد من دبلوماسييها، وتعليق أى مشاركة رسمية فى كأس العالم وإجراءات أخرى، أعلنت دول أوروبية والولايات المتحدة التضامن معها بإجراءات مماثلة، وهو ما ردت عليه موسكو بالمثل.
الجمعة الماضى حزم موظفو القنصلية الأمريكية فى سان بطرسبرج الروسية أمتعتهم، واستعدوا لإنهاء أعمالهم، بعد أن أمر الكرملين بإغلاقها، فضلاً عن طرد 60 دبلوماسياً أمريكياً، فى تطور أعتبره مراقبون يؤشر لمرحلة جديدة من تدهور العلاقات بين واشنطن وموسكو، أو بمعنى أدق، ينعش مجدداً فرص اشتعال حرب باردة بين الدولتين، بعدما هدأت نسبيا عاصفة «التدخلات الروسية فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية».
الروس يقولون إنهم ليسوا من بادروا بالحرب الدبلوماسية، وأن تصرفاتهم جاءت كرد فعل، وأنها «اضطرت لاتخاذ إجراءات انتقامية رداً على أعمال غير ودية وغير مشروعة من قبل واشنطن»، كما قال الكرملين، لكن الإدارة الأمريكية يبدو أنها لم تكن تتوقع ردة الفعل الروسية، وأنها كانت تظن أن موسكو ستمتص حالة الغضب الأوروبية لبعض الوقت، خاصة أن روسيا ستستضيف كأس العالم بعد ثلاثة أشهر، ويهمها ألا تصعد من خلافاتها السياسية مع أحد، حتى تحقق النجاح المرجو فى المونديال، لكن الحقيقة أن الروس كان لهم رأى آخر، فهم ينظرون للقرارات الغربية على أنها تمثل تحديا لروسيا ولسيادتها، وأنها ليست فى وارد الامتصاص، بل سيكون رد فعلها عنيفاً، وربما اعتبرت روسيا أن الأزمة الأخيرة تمثل بالون اختبار لها، إذا لم ترد عليه بقرارات أقوى، ربما تفاجئ مستقبلاً بإجراءات أكثر وطأة، وربما أيضاً يتم استخدام التحقيقات الأمريكية فى قضية التدخلات الروسية فى الانتخابات الرئاسية لإملاء شروط معينة على الروس، لذلك اختارت موسكو المعاملة بالمثل حتى تقول للجميع إنها ليست فى وضعية ضعف.
بريطانيا وحلفاؤها الأوروبيون ومعهم الولايات المتحدة من جانبهم يدركون أن واقعة الجاسوس الروسى تتطلب موقفاً حازما، فى ضوء معلومات متوفرة لديهم عن تحركات استخباراتية روسية على أراضيهم، وأنهم إذا سمحوا للواقعة الأخيرة أن تمر دون حساب فستكون الساحة مفتوحة أمام الروس، ليفعلوا ما يريدونه مستقبلاً، وربما فكرت بريطانيا تحديداً أن الوقت مناسب لمواجهة روسيا المنهمكة فى ملفات إقليمية ودولية أرهقت التفكير الروسى، فضلاً عن سعيهم لإنجاح المونديال، لكن فيما يبدو أن الرؤية الكاملة قد غابت عن بريطانيا وحلفائها، لأن روسيا التى حققت انتصارا دبلوماسياً فى أزمة أوكرانيا وتحديداً منطقة القرم، تدرك جيداً أين ومتى تتحرك، وأنها تدير أمورها بحسابات دقيقة، حتى وإن كانت هناك بعض الأخطاء، لكنها تعلم متى تتحرك ومتى تقف.
المهم الآن هو مستقبل هذه الأزمة خاصة فى العلاقات الروسية الأمريكية، نعم هناك بريطانيا ودول أوروبية أخرى ربطت نفسها بالأزمة، لكن الحديث والاهتمام منصب على الحوار بين موسكو وواشنطن، بالطبع لا أحد يستطيع التكهن، لكن من الواضح أن التحركات التى تجرى على الأرض ربما تصل إلى نهاية مأساوية للجميع، وتدهور لا يتمناه أى عاقل، وهو ما أشارت إليه على سبيل المثال المتحدثة باسم البيت الأبيض، سارة ساندرز، التى قالت فى بيان إن عمليات الطرد التى قررتها موسكو «تمثل مرحلة جديدة من تدهور العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا»، وهو ما يشير إلى إمكانية الصدام، لكن إلى أين وكيف ؟ كل التقديرات تقول الآن إننا نعيش أوضاعاً شبيهة إلى حد كبير بما حدث خلال الحرب الباردة، لكن مع اختلاف الأشخاص، وتحديداً قادة الكرملين، فروسيا الآن تحت حكم مختلف عما كانت عليه قبل 30 عاماً، اليوم يوجد فيلاديمير بوتين الواثق من نفسه وقدراته على مواجهة أى تحدٍ، فضلاً عن تماسك الجبهة الداخلية فى روسيا، حتى إن أزمة الروبيل الروسى تخطاها دون أى تأثيرات، وهو أمر يتطلب أن يكون الأوروبيون ومعهم الولايات المتحدة أكثر وعياً لشكل روسيا الآن.
نحن إذن أمام كرة ثلج تكبر كل دقيقة، ولا مجال لتوقع حجمها النهائى، إلا إذا راجع الجميع تصرفاتهم، وجلسوا على مائدة التفاوض للوصول إلى حل، بمساعدة من بعض العقلاء، وليكن ذلك تحت راية الأمم المتحدة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة